كنت قد كتبت مقالاً قبل أسبوعين، قبل بدء امتحان الكفاءة الجامعي، الذي تشرف عليه هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي، وقلت حينذاك إن امتحان الكفاءة لا يعدو كونه تسلية لإشغال وقت الفراغ، والتجارة بالكسل من خلال مسيرة عشر سنوات من التخبط، والأخذ والرد، إذ تم تعديل قانون هذا الامتحان عشرات المرات، ولا أحد يعرف الهدف منه بالتحديد، هل هو لقياس معرفة الطالب؟ أم قياس كفاءة البرامج التعليمية؟ أم قياس كفاءة الجامعات وبرامجها الأكاديمية؟ ثم ماذا يترتب على نتائج هذا الامتحان؟ وكيف يتم وضع الأسئلة؟ وما المهارات التي تريد أن يقسها؟ وهل يتناسب مع المدخلات التعليمية التي يتلقاها الطلبة في الجامعات؟
هذه الأسئلة يجيب عنها المسؤلون في هيئة الاعتماد بإجابات مغمغمة، وتصريحات متناقضة ومتضاربة، ذلك أنهم أنفسهم ليس لديهم تصور واضح عن الأهداف المبتغاة من هذا الامتحان، ويبدو لي أن كل هذه "الميمعة" من أجل هدفين: إشغال الموظفين في هيئة الاعتماد، ليبدو أمام الناس أن وجود الهيئة ضروري، وأن لها عملاً تقوم به، وربما بحتاجون إلى موظفين جدد، وممارسة السلطة على الجامعات، وإثبات الدور الرقابي – وربما الابتزاز أحياناً- من أجل تبرير ما يفرضونه من أموال على الجامعات، وما عدا ذلك هو كلام إنشائي، يتفوه به المسؤولون أمام وسائل الإعلام.
أقول ذلك بعد التسريبات، التي وصلتنا عن أسئلة امتحان الكفاءة،، والطريقة التي تمت إدارتها بها، أما الأسئلة فقسمت إلى ثلاثة مستويات، كما نعرف، وبحسب ما ذكر الطلاب فإن أسئلة المستوى العام يميل أغلبها إلى أساليب "الحزازير"، مثلا: "خالد غير مدخن ولا يلعب الورق، وذهب عند أصحابه يدخنون ويلعبون الورق، فهل يعتبر خالداً مدخناً"،؟ أو "أنت تريد أن تذهب إلى إربد فركبت في باص مكتوب عليه عجلون، فأين ستذهب؟". أو "القطار الروسي في مدينة الألعاب يحتاج إلى 5 دقائق في كل دورة ويرتاح 8 دقائق بين كل دورتين، فكم ساعة يعمل في اليوم؟" وقد ذكر لي بعض الطلبة أن بعض هذه الأسئلة منقول عن (فيس بوك)!
ذكرتني هذه الأسئلة بحزازير خالي رحمه الله، فقد كان مشهوراً بها، وكان يسألنا ونحن صغار: "برا مات الجحش قديش؟" أو "اشي بطح أمك بالوادي"، وإذا لم نعرف يبدأ بشتم المعلمين الذين يدرسوننا في المدارس، لأنهم لم يعلمونا حل هذه "الحزازير". أخشى أن تشتمنا هيئة الاعتماد وتشتم الجامعات، لأنها لم تعلم الطلاب هذه "الحزازير". ويمكن أن يكون من الأسئلة المتوقعة في الامتحان القادم أن على الطالب أن يقول: "خيط حرير على حيط خليل" سبع مرات من دون أن يخطئ!
أما المستوى المتوسط فأغلب الأسئلة تاريخية عن الأردن، ومعلومات تعتمد على الحفظ فقط، ولا علاقة لها بالتفكير، فما المشكلة أن لا يعرف الطالب أول رئيس وزراء أردني مثلاً؟ هل ينتقص ذلك من قدراته وكفاءته؟
وفي المستوى الدقيق جاءت الأسئلة بسيطة لا تحتاج إلى كثير تفكير لإجابتها، وهي أيضاً في أغلبها تعتمد على مهارة التذكر، كأسماء الكتب وأسماء المؤلفين، ويمكن أن يحتوي أحد النماذج على أسئلة من مجالين أو ثلاثة في التخصص، فمثلاً في اللغة العربية بعض الطلاب كان نموذجهم يحتوي على أسئلة في العروض والبلاغة فقط، أو في النحو والصرف فقط، ولم تكن النماذج شاملة للمعارف التي من المفترض أن يتلقاها الطالب في المواد التي يدرسها، كما أن بعض الجامعات لا تركز مثلاً على مواد معينة، وليس لها وزن في الخطة الدراسية، فمادة البلاغة في جامعة اليرموك من متطلبات القسم الاختيارية، ولذا فإن بعض الطلاب قد لا يدرسونها، وقد ذكرت في المقال السابق أن امتحان الكفاءة يجب أن يكون مبنياً على مخرجات الخطط التدريسية في الجامعات، ومعرفة أوزان المجالات المعرفية المقدمة فيها، لأن بعض الخطط تركز على مجالات معرفية أكثر من غيرها، ومن ثم يمكن تغيير الخطط لتناسب المتطلبات والمهارات التي نريدها من البرامج التعليمية ومن الطلاب أيضا، لتكون هذه البرامج قادرة على إعطاء المهارات اللازمة للطالب ليكون قادراً على التنافس محلياً وعالمياً، وليكون قادراً على دخول سوق العمل بالمهارات المطلوبة فيه.
ملاحظة أخيرة حول من يدير الامتحان ويراقب على الطلاب من الموظفين في الجامعة نفسها الخاضعة للاختبار، ودور هيئة الاعتماد يقتصر على إيصال الأسئلة فقط، فهل يضمن هذا نزاهة الاختبار وموضوعية النتائج؟
أخشى أن يكون امتحان الكفاءة تعبيراً عن فساد مؤسساتنا الرقابية، ومدخلاً لإفساد مؤسساتنا التعليمية!
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.