حرائق الكرمل واختلاط المشاعر

الرابط المختصر

بدت الشابة شديدة الاقتناع بما تقول: قرار السلطة الفلسطينية إرسال فرق إطفاء للمساهمة في إخماد الحرائق المندلعة في غابات الكرمل ، قرار صائب ، ويجب دعمه ، ولا يجوز إدراجه في سياق التنسيق الأمني ولا ينبغي تسييسه بحال من الأحوال.

قلت: هل تقصدين أن هذه البادرة الإنسانية سيكون لها انعكاس إيجابي على صورة الفلسطيني ، وأن القرار صائب سواء صدر عن باعث إنساني مجرد وعميق أو اندرج في سياق لعبة العلاقات العامة التي يبدو أنها صارت الساحة الأبرز من ساحات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

قالت: لا هذا ولا ذاك ، فالأشجار التي تحترق هي أشجارنا ، زرعها أجدادنا ، أو اعتنوا بها على أقل تقدير ، والقرى التي تحاصرها النيران ، هي قرانا ، حتى وإن سكن فيها أو على مقربة منها مستوطنون غرباء ، وليس هناك من هو أحق منا بالعمل لمنع تحوّلها إلى وقود للنيران المشتعلة.

هي صورة استوقفتني بعض الشيء ، الفصل بين المكان وما فيه من شجر وحجر ، وبين الإنسان الذي هو العدو المدجج بالحقد والكراهية ، وهي مقاربة مختلفة عمّا قرأت وسمعت من مقاربات منافحة عن التطبيع أو مناهضة له ، وهي صورة تعكس التعقيدات الهائلة التي يعيشها الإنسان الفلسطيني في علاقاته مع الآخر والشتات ، والوطن المحتل على دفعات في 48 67و ، إلى غير ما هنالك.

والحقيقة أن ملاحظة السيدة الشابة ذكّرتني بانطباعاتي عن أول زيارة عبرت فيها الخط الأخضر ، إلى المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48 ، إذ بخلاف زياراتي لعشرات الدول في العالم ، فإن المشاهد الجميلة في فلسطين أزعجتني كما المشاهد القبيحة. فعندما كنت أرى الخراب المقيم في بعض القرى وأطراف المدن والبلدات الفلسطينية ، كنت أحزن أشد الحزن ، فهذه المناطق كانت تعج بالحياة ذات يوم ، وبمقدورك إن أنت أصغيت جيداً أن تسمع أصوات المآذن وأجراس الكنائس ، ناهيك عن ضجيج البشر والشجر والحجر.

وإن أنت مررت بمنظر جميل ، كما هو الحال في الكرمل الذي يحترق هذه الأيام ، تشعر بالغصة تمتد من الحلق إلى القولون الملتهب ، فكل هذا الجمال الطبيعي ، كان لك ولأجدادك ذات يوم ، قبل أن تستيقظ على صور النكبة والنكسة والهزيمة ، وتحمل لقب لاجئ ، وتحظى برقم طويل نسبيا في كشوف الأونروا.

إنها تجربة فريدة حقاً ، تجعلك تقف حائراً ومتردداً ، فالمنطق الطبيعي للحروب والصراعات يملي عليك أن لا تهرع لمد يد العون للغابات المحترقة خلف خطوط العدو ، بل ويبيح لك إشعال هذه الحرائق والتسبب بها ، ولكن إحساسك بأنها أرضك وزرعك وشجرك ، وأن أجدادك تفيّأوا ظلالها ذات يوم ، يجعلك تغمض الأعين عن شبهة التطبيع ، أو هكذا ترى الشابة ـ اللاجئة.

وأياً يكن من أمر ، فإن ثمة دلالة لحرائق الكرمل ، تتخطى الإحساس المركبة والمشاعر المختلطة ، إلى القناعة بأنها تكشفت عن تواضع دولة الشعب المختار والجيش الذي لا يقهر ، لقد هزمتهم النيران ، وظهروا كدولة عالمثالثية ، لا أكثر ولا أقل ، لقد أزالت النيران قناع القوة والتفوق ، وأعادت المارد الإسرائيلي إلى حجمه الطبيعي ، بل وأكاد أجزم بأنه لم يكون يوماً مارداً ، وأننا نحن من صنع أسطورته وطاف بها الآفاق. ألم يجهدوا في تربيتنا ، جيلا بعد جيل ، على نظرية أن إسرائيل دولة لا تقهر ، وأن الصدام معها سينتهي إلى الهزيمة لا محالة؟،.

الدستور

أضف تعليقك