حتى لا تُختزل «المقالة» بكلمة واحدة
ليست هذه المقالة للرد على أحد، ...هذه المقالة موجهة لمن يستحقون منّا، ومن موقع المحبة والتقدير والاحترام، ما وجب علينا من توضيح وإجلاء لأية التباسات، وأعني بهم أهلنا الأردنيين جميعا، ...لقد تعرضت مقالتنا المنشورة في هذه الزاوية، تحت عنوان «من أي إناء ينضح هؤلاء الإصلاحيون ؟!»، لأسوأ عملية تحريف وتشويه، وحمّلها البعض ما لا تحتمل من المعاني السيئة والمسيئة، بعد أن اختصروا المقالة برمتها، بكلمة واحدة منها فقط، نزعت من سياقها،...ولقد تلقيت وابلاً من الاتصالات المتضامنة والمستوضحة...العاتبة والغاضبة، ومن أخوة وأخوات، أعزاء وعزيزات، تربطني بهم أوثق العلاقات وأصدق المشاعر، لكل هؤلاء وجب الشكر والتقدير...التوضيح والأسف عن كل ألم قد يكون ألمّ بهم.
سنترفع عن المهاترات والجدل، وسنكتفي بالتوقف عند ملاحظات ثلاث،....أبدأها أولاً بتأكيد المؤكد...والمؤكد هنا أنه ما كان لرجل مثلي، سواء من حيث المولد والنشأة والنسب والمصاهرة والتجربة، أو من حيث الخلفية الفكرية والسياسية، أن يصدر عنه، ما يسيء لأبناء الاردن...فمن أبصرت عيناه النور لأول مرة بين أحضان العشائر، وترعرع على وقع اختلاط الدماء والأنساب، وخاض أولى غمار تجربته السياسية في صفوف مناضلين من «شتى المنابت والأصول»...مَن تعلم مذ أن كان فتى، «أن ليس للعامل وطن، يا عمال العالم اتحدوا»، لا يمكن أن يقع في شرك الإقليمية الكريهة أو الطائفية المُغرضة.
من طاف بـ»المحافظات»، كل المحافظات، المرة تلو المرة، محاوراً ومحاضراً، وكما لم يفعل كاتب أو مثقف – ربما – واحتفظ بصلات شخصية مباشرة، مع مئات، إن لم نقل ألوف المواطنين من أبناء العشائر والأحزاب والمجتمعين، المدني والأكاديمي فيها، لا يمكن أن يخطر بباله، أن يلحق الضرر أو الإساءة، بكل تلك الوجوه الطيبة .
من ابن الأردن و»الحويطات» البار، الراحل مشهور حديثة الجازي، تعلم كاتب هذه السطور، كيف يمكنه «التمييز» بين الأردنيين والفلسطينيين تاريخياً، هؤلاء أسدلوا «الفشك» على صدورهم في صفين متوازيين، واولئك تمنطقوا به في صفين متقاطعين، هكذا قال له جده، فيصل الجازي، قبل أزيد من ثلاثة أرباع القرن، جواباً على سؤال مشهور الطفل، عن هوية القادمين إلى مضارب الحويطات: إنهم ثوار فلسطين، وقد جاءوا طلبا للمدد والسلاح و»الفشك»...هذا ما ميّز الشقيقين...هذا فقط، ولا شيء سواه...هذا هو إرث الجازي، إرث الكرامة، مبثوثاً ومحفوظاً في ضمائر أبنائه وأحفاده من الأجيال الأردنية المتعاقبة، ومن شتى المنابت والأصول طبعاً...هذا هو الإرث الذي تشيّد عليه الوحدة الوطنية، وتتناسل منه، أسئلة الهوية والمواطنة.
من حمدان ارشود الهواري، الذي التقاه لأول مرة في مظاهرة منددة بجريمة إعدام مخيم تل الزعتر والتدخل السوري العسكري في لبنان 1976 تعلم كاتب هذه السطور، أن الكرك شقيقة الخليل ونابلس، وأن المرء قد يختار أصدقاءه، ولكنه لا يختار أشقاءه...لقد كانت لائحة المتهمين في القضية التي سجن على إثرها الراحل، أفضل شاهد على «الوحدة الوطنية» في أعمق صورها ومظاهرها، شباب وصبايا، حُكموا حضورياً وغيابياً، من نابلس والخليل وجنين وعمان والكرك ورحابا والمفرق...تلك كانت أزمنة أخرى.
أما الملاحظة الثانية، فعن «حكاية الدشاديش» التي درجت على كثير من الألسنة وتصدرت العديد من عناوين «المقالات»، لقد استل البعض الكلمة من سياقها، وأحالوها إلى «قميص عثمان» جديد...مع أن «المجاز» هنا، يوضحه السياق، وهو ليس بحاجة لكثير من الشرح والتوضيح...فمن قال مثلاً، أنك تهجو أباك أو تسيء إليه إن أنت قلت «أنا لن أعيش في جلباب أبي»...أليس التطور أو الإصلاح هو الخروج من تحت إبط هذا «الجلباب» والإفلات من مظلة تلك «العباءة»؟...أليست «الدشداشة» شقيقة «القمباز» و»الكبر» الفلسطينيين، من شاكلتهما وطرازهما...وكيف لمن احتفظ حتى الأمس القريب، بـ»قمباز» أبيه أن يهجو «دشداشة» شقيقه وجاره...وهل «الدشداشة»، باتت رمزاً حصرياً بمنبت دون آخر...أليست لباس عشرات ملايين العراقيين والسوريين والخليجيين...أليست «الوزرة» اليمنية و»الخَلَقَ» الصعيدي و»القفطان» المغربي، أشقاء وشقائق الدشداشة الأردنية...من يسخر من هذا وذاك وتلك، يسخر من أمة بأسرها، ومعاذ الله أن يكون هذا من شيمنا وأخلاقنا...لقد ذكرني أمجد ناصر بأن «الدشداشة» تعبيرٌ وافد على القاموس الأردني، فالأردنيون اعتادوا استخدام «الثوب»، قبل أن تدخل المنطقة برمتها في الحقبة الخليجية خلال السنوات الأربعين الفائتة..
والملاحظة الثالثة، أو خلاصة ما أريد أن أقوله : لقد تمنيت أن أجد في ثنايا معظم الردود، ما ينبئ بالرغبة في تطوير حوار وطني، عاقل ومخلص، صريح ومباشر، حول الإصلاح الذي نريد ويريده الأردنيون جميعاً، لكنني للأسف لم أعثر إلا على الشتائم والاتهامات...وهنا يتحتم أن نعيد القول وإن بإيجاز، بأن لا معنى للإصلاح إن لم ينهض على الأعمدة التالية: وطنٌ واحد نحميه جميعاً ونصد عنه التهديدات والأخطار، القائمة والكامنة...شعبٌ واحد وهوية جمعية وجامعة واحدة...صفٌ واحد من أجل فلسطين وحقوق شعبها...دولةٌ لجميع أبنائها من شتى المنابت والأصول...مواطنة متساوية...شراكة ومشاركة وعدالة اجتماعية وتنمية متوازنة...فلنتوجه بعزم وثبات، للانخراط في المسيرة الوطنية السلمية، للإصلاح والتحول الديمقراطي...لتصليب جبهتنا الداخلية وترتيب بيتنا الكبير، والاستعداد لمواجهة ما ينتظرنا وينتظر المنطقة برمتها، من أحداث وتطورات جسام.
الدستور