حتى تكتمل ثورة المعلمين

حتى تكتمل ثورة المعلمين
الرابط المختصر

كان من أطرف ما صدر عن النخب السياسية العاجزة عن فهم ما يجري إبان تصاعد حراك المعلمين أنها اتهمت الإسلاميين بالمسؤولية عنه! مصدر الطرافة بالطبع أن الإسلاميين بذلوا جهوداً خارقة طوال الشهور الماضية للتكيف مع ذلك الحراك الذي أرعبهم باتساعه! أحد قياديي المعلمين –وهو بالمناسبة مصنف لدى البعض على أنه مقرب من الإخوان المسلمين- قال بالحرف أثناء الاعتصام الأخير أمام رئاسة الوزراء: لا تستطيع كل الأحزاب بما فيها جبهة العمل الإسلامي تجميع ربع هذا العدد! وقد اتضحت صحة قوله بعد أيام في اعتصام جبهة العمل الإسلامي للاحتجاج على المفاوضات المباشرة التي انطلقت في واشنطن.

ولكن المعلمين وبسبب قوتهم التي فاجأت الجميع أصبحوا أمام استحقاقات جذرية قفزت إلى الواجهة بسرعة، تماماً بنفس السرعة التي أميط بها اللثام عن القوة الكامنة لهذا القطاع الضخم.

المطلب المباشر للمعلمين هو إطار نقابي يجمعهم. وما زالت النقاشات تدور حول ذلك الشكل النقابي ما بين اتحاد للمعلمين ينشأ بموجب قانون، وهو الحد الأدنى المقبول لديهم، وما بين النقابة التي تشكل المطلب الأقصى.

وفي هذه المرحلة من النضال ليس مطلوباً من المعلمين أن يقفزوا إلى النتائج. ولكن من المفيد أن يكون هناك استشراف للاستحقاقات التي قفزت إلى الواجهة، والمتعلقة أساساً بطبيعة مهنة التعليم، وتطوير العملية التعليمية بشكل متكامل.

وتتركز الاسنحقاقات في محورين: محور المعلمين ومحور المناهج. وما عدا ذلك فهو ظروف مساعدة.

في محور المعلمين يغطي مطلب النقابة (أو أي شكل نقابي يرتضيه المعلمون) حق المعلمين في تحسين ظروفهم المعيشية والوظيفية. وفي نفس الوقت هناك حاجة ماسة لتطوير أساليب التعليم، حيث ينظر الكثير من المعلمين إلى أساليب التعلم والتعليم الحديثة نظرة متشككة تجعلهم غير متقبلين لها. ويعود السبب الرئيس في تلك النظرة إلى أسلوب وزارة التربية والتعليم الفوقي في التعامل مع المعلمين، حيث أجبرتهم خلال سنوات على دورات التطوير التربوي ودورات التكنولوجيا وفرضت عليهم الالتحاق بها في ظروف منفرة في الغالب. واتضح فيما بعد أن تلك الدورات التي كلفت الدولة عشرات ملايين الدنانير لم تترك الأثر المطلوب بسبب عدم قناعة المعلمين بها. وصار من الواضح أن كل تلك المبالغ أنفقت لتكون مصدر رزق لبعض الجهات.

النقابة –أو من ينوب عنها الآن- أمام تحد حقيقي في مجابهة سياسات التنفيع تحت مسمى تطوير التعليم، واستبدالها بسياسة تربوية تقوم على تجاوز نظرة المعلمين التقليدية إلى التعليم، ومساعدة المعلم على تجاوز دوره المتوارث أمام السبورة كمسيطر، والاعتراف بالتعلم النشط، وبالطالب كشريك حقيقي في الحصة، والوصول عموماً إلى تطوير حقيقي في استراتيجيات التدريس وأساليبه بمشاركة المعلم وبقناعة تامة منه.

مطلوب حقاً أن يتم تطوير رؤية المعلم للحصة بحيث تختفي الفكرة التي يحملها الكثير من المعلمين عن الجيل الجديد على أنه "لا يريد أن يتعلم"، وأن يتم استبدالها بفكرة "كيف أجعله يتعلم".

وفي الواقع لا يمكن تصور تحقيق قفزة في وضع التعليم دون تطوير حقيقي في هذا المحور. ولمن لا يعلم فإن الوضع العام للتعليم في الأردن كارثي، سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة، لا فرق.

وعلى نفس الصعيد مطلوب من النقابة أن تأخذ موقفاً أخلاقياً واضحاً من الدروس الخصوصية، والتي يختلط كثير منها بشبهة عدم الإخلاص في العمل. ومن المتوقع بالطبع أن تتراجع هذه الظاهرة بمجملها عند تحسين الظروف المعيشية للمعلمين.

أما المحور الثاني فهو المناهج. وهي تعاني من مشكلتين أساسيتين: الأولى هي تقاسم السلطة على المناهج بين الحكومة والإخوان المسلمين، والثانية هي إخضاع المناهج لضرورات السوق.

بذل الإخوان المسلمون خلال السنوات الطويلة التي سيطروا فيها على وزارة التربية وعبر عدة وزراء وأمناء عامين جهوداً كبيرة لتعديل المناهج وزج كل ما من شأنه أن يروج لفكر الجماعة. ونحن هنا لا نتحدث عن الإسلام كدين، فالأغلبية الساحقة من الأردنيين تدين بالإسلام، ومن الطبيعي، بل والمطلوب، ان ينعكس ذلك في المناهج. ولكن الحديث هنا عن تغييب مناهج المنطق والفلسفة مثلاً بسبب قناعة بعض مسؤولي الوزارة بأنها لا تتناسب مع الدين كما يفهمونه، والتمثل بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة التي يسهل تفسيرها بما يروج لفكر الإخوان، وبحشر مواد تهدف بشكل خفي –وصريح أحياناً- إلى تنفير الطلبة من اتجاهات سياسية معينة كالبعث والشيوعية. والأمثلة كثيرة لمن يرغب في التدقيق. وكل ذلك يندرج في باب التجييش السياسي، ولا علاقة له بالتدين الطبيعي لمجتمعنا.

أما الحكومة بدورها فقد تركت للإخوان المساحة التي يرغبون بها، ولكنها شددت على حذف كل ما يتعلق بالجهاد مثلاً من مواد التربية الإسلامية، وحذفت من مناهج التربية الوطنية والتاريخ كل ما يشير إلى العداء لـ (إسرائيل) أو الصراع الطويل معها. وحتى ما تعلق بالديموقراطية والبرلمان جرت كتابته بطريقة تخدم غير الهدف المعلن، وغيبت من المناهج كل تاريخ الأردن قبل إنشاء إمارة شرق الأردن، وكل من دخل في صراع معها. وباختصار، تستخدم الجهات الرسمية المناهج للترويج للرؤية الرسمية بغض النظر عن المصالح التربوية للطلبة، والمصالح الوطنية التربوية المتمثلة في جيل يعرف تاريخ بلاده.

وفي ظل التفاهم الضمني بين الإخوان والحكومة كانت المناهج تتغير كل عامين تقريباً، وبكلف مالية كبيرة على الدولة، وبالطبع عبر شركات تنفذ عقود المناهج الجديدة. وتغيير المناهج أمر متعارف عليه في دول متقدمة تعليمياً، ولكن بأسلوب اعتماد كتاب موجود في السوق للتدريس، ومجرب قبل ذلك، لا أن يتم تصميم منهاج كامل ليتم تطبيقه على الطلبة لعام أو عامبن، ثم يعاد تصميمه من جديد، دون أن يتمكن المعلمون من التوائم معه لتطبيقه بصورة مناسبة. وفي العموم ظلت المناهج غير متناسبة مع الطلبة، إما من ناحية عدم توفر الإمكانيات التقنية التي تدعمها، أو من ناحية بعدها عن البيئات المحلية للطلبة.

المعلمون الآن يسعون وبقوة لم يعهدها مجتمعنا من قبل إلى الحصول على إطار نقابي يمثلهم. وهي الأولوية المطلقة في هذه المرحلة كما حددوها هم. وهم الأدرى بمصالحهم. ولا أملك لا أنا ولا غيري لهم سوى النصح، ولهم الأخذ به أو تركه في مكانه، فأهل النقابة أدرى بشعابها.

كل ما نأمل به ألا يتكرر مع المعلمين ما قاله أحد زعماء العالم الثالث بعد الاستقلال عن بريطانيا: نلنا الاستقلال، ولكن ماذا سنفعل به!

كل الادرن