جلسة تعذيب

جلسة تعذيب
الرابط المختصر

في خلوةٍ من خلوات الكتابة، التي تمنحها بعض المؤسّسات الثقافيّة العالميّة، لعدد من الكتّاب، من أجل أن ينجزوا نصوصهم في أماكن هادئة، وبعيدة، ومُعدّة للتأمّل، أتمّ زميلي الروائيّ كتابة روايته الجميلة، والفريدة حقّاً، وذلك في أحد المنتجعات الفخمة، المستلقية على الشاطئ المرجانيّ للبحر الأحمر، حيث تمسك آلهة الإلهام ذاتها بأقلام المحظوظين، وتكتب بدلاً منهم.

قال: فلمّا فرغت من الكتابة، انتابتني رغبة شديدة في الخضوع إلى جلسة تدليك أو "مساج" في ذلك المكان الساحر، أكافئ بها نفسي على الإنجاز، وأتخلّص من الإرهاق التاريخيّ الذي سكن عظامي، وعضلاتي، وروحي القلقة، جرّاء ملاحقة الحياة المدنيّة، المحمّلة بالأعباء اليوميّة من السادسة صباحاً إلى العاشرة مساء، وفوقها جزع الكتابة.

تابع زميلي: حدّدت موعد الجلسة ظهراً، واخترت "مساج Aroma التايلنديّ" والذي يمنح الاسترخاء لكامل الجسم، وستكون مدتّه ستين دقيقة، وبتكلفة قدرها مئة دولار أميركيّ، لا تتحمّلها الجهة الداعية.

دخلتً ذلك الـ "spa"، فأخذني الهدوء المحمول على موسيقى شرقيّة لنايات خلجان "الملايو". خلعت ملابسي، وتمدّدت على بطني فوق سريرٍ وثيرٍ، وتغطّيت بمناشف طريّة وفي منتهى النظافة، ففاحت من حولي رائحة العتمة المعطّرة بزيوت الشموع المضيئة، بعبق خشب الأرز، والنجيل، والزنجبيل، والبتشول، تستلقي حولها علب لمستحضرات الجسد الباذخة، ومناشف صغيرة، ملفوفة، ومطويّة بعناية فائقة، بيضاء، وبرتقاليّة..

استسلمت ليدي المدلّك، القويّتين، والطريّتين بشكل مدهش! حركتان أو ثلاث، وانفتحت ذاكرتي: رأيت أبي عائداً من المدرسة التي يعلّم فيها، وبيده أكياس خضار، وبعض فاكهة ستوزّع علينا بالقسطاس المستقيم، أنا وإخوتي، يفكّر بما تبقّى من راتبه الذي سيفعل المستحيل حتّى يستبقيه إلى نهاية الشهر. رأيت أمّي تنفد من عندها علبة الكريم المرطّب، فلا تفكّر في اقتناء أخرى، إلى أن يتشقّق جلدها من جرّاء الجلي والشطف والمسح، ثمّ رأيت أطفالاً بلا مدارس، يمسحون زجاج المحلاّت بأيديهم الصغيرة والقذرة، وآخرون في ورشات تصليح السيّارات، حيث يلطّخ الشحم المسودّ وجوههم البريئة، ويسكن أخاديد كفوفهم التي ما تزال بضّة.

حين شعرت بيدي المدلّك تمرّران الزيوت الباذخة فوق ربلتي ساقيّ، خرج عمّال المناجم من رواية  إميل زولاّ "جرمينال"، واصطفّوا أمامي ببدلاتهم الداكنة، وبرائحة الفحم المقيتة التي تفوح من جلودهم، ثمّ التحقّ بهم "مساكين" دستويفسكي، و"المذلّون والمهانون"، ووراءهم "راسكولينكوف" الجائع، وأمّه، وأخته، محاولين تدبّر بعض من المال، ليدفع "راسكو" لصاحبة النزل العفنة، ثمن الخبزة وحساء البطاطا.

كان التايلنديّ قد قلبني على ظهري، وفتح الستارة قليلاً، فظهر البحر أمامي في زرقة لن تنتهي أبداً، فتذكّرت حكاية عمّي الكبير، عن جدّي الذي خارت قواه، وهو طفل في الصحراء، حين كان أهله ينتقلون من مكان إلى آخر، فتركته أمّه قبل أن تنفد مؤونتهم، فيموتون جميعاً، والتقطه بعض السيّارة، وأعادوه إليها، فعجزت عن احتمال صدمة الفرح، وماتت. بعد ذلك تقدّم "مصطفى سعيد" بطل "موسم الهجرة إلى لشمال"، ونطق عباراته  في أذني أنا شخصيّاً، قال: "تمهلت عند باب الغرفة، وأنا استمرئ ذلك الإحساس العذب، الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر. إحساس صاف بالعجب، من أنّ ذلك الكيان العتيق، ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض، وحين أعانقه، أستنشق رائحته الفريدة، التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة، ورائحة الطفل الرضيع.. نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبيّ، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي، أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه". يقول زميلي الكاتب: بكيت بكاء حارّاً، على فقرنا، وبؤسنا المتجسّد في عذابات نماذج الأدب، وبلّل دمعي المنشفة البرتقاليّة تحت خدّي، ندماً على مئة من الدولارات التي كان كثيرون أولى بها من جسدي، وهممت برمي الأغطية، والزيوت، والشموع، لأقوم، لكنّني سمعت التايلنديّ يقول:

"الجلسة انتهت يا سيّدي، أرجو أن تكون قد استمتعت!".

·        د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".