إن ما نراه اليوم من اقتتال وفتن ودماء وانتهاكات لكل القيم الإنسانية دليل صارخ على أن المذاهب والطوائف قد فقدت رؤيتها، وأصابتها نكسة فكرية قد تكون مدمرة في المستقبل، وبوادر هذا الدمار أخذت تطل برأسها في أغلب الدول الإسلامية، كأنها تصحو بعد سبات لتحقق ذاتها المتخلفة من خلال نفي الآخر وقتله وتكفيره، وإثبات وجودها بوهم امتلاك الحقيقة التي لا تراها إلا من زاوية واحدة، هي زاوية نظرها، وما عدا ذلك هو شرّ وكفر تسعى للقضاء عليه بكل الوسائل والسبل من دون حساب للمصالح الإنسانية الكبرى.
يحتم علينا مشهد القتل والدماء اليومي أن نعيد النظر في كثير من مناهجنا وثقافتنا وتربيتنا، لأن الأمر لم يعد حديثاً حول حالات فردية، بل تعدى لأن يصبح ظاهرةً تهدد أمن المجتمعات، وتعيق قدرتها على التطور والتقدم والبناء، لذا تبدو الحاجة ملحةً لمنهج نقدي، يعاين الظاهرة ويضع لها الحلول، فالتعصب الطائفي كما يعرفه علماء النفس "هو شعور للفرد مقرون بالقول أو العمل أو الاثنين معاً، بالانتماء إلى دينٍ أو مذهبٍ معينٍ أو معتقدٍ، والتعصب لهذا الانتماء على أنه الحقيقة الوحيدة ضد جميع المعتقدات الأخرى".
وهذا الشكل لا ينحصر في دينٍ واحدٍ بل يصدر من الإنسان مهما كانت عقيدته وانتماؤه الديني، ولا يقتصر على مستوى حضاري دون آخر، أو حتى مستوى اجتماعي أو اقتصادي دون آخر، وهناك علماء معاصرون يرون أن الإنسان بطبيعته يميل إلى التعصب, كما لو أنه مخلوق متعصب.
ويمكن الإشارة إلى ثلاثة آراء معاصرة ومتقاربة في رؤيتها لهذه الظاهرة, الرأي الأول أشار إليه بول ريكور حيث "التعصب يعبّر عن ميْلٍ طبيعي موجود لدى جميع البشر, وكل شخص في نظره وكل فئةٍ وجماعةٍ تحب أن تفرض عقائدها وقناعاتها على الآخرين, وهي تفعل ذلك عادة إذا ما امتلكت القوة والسلطة الضرورية لتمكينها من الفعل الذي تريده"، والرأي الثاني لـ جاك لوغوف بأن "التعصب هو الموقف الطبيعي للإنسان وليس التسامح, والتسامح في نظره شيء مكتسب ولا يحصل إلا بعد تثقيفٍ وتعليمٍ وجهدٍ هائلٍ تقوم بها الذات على ذاتها"، والرأي الثالث أشار إليه محمد الطالبي, إذ يرى أن الإنسان بطبيعته كائن متعصب، لكنه يصبح متسامحاً بالضرورة عن طريق الذكاء والعقل, لأنه مضطر للعيش في المجتمع والتعامل مع الآخرين".
ويرى ابن خلدون أن العصبية تعني "الالتحام الذى يكون بين الأقارب والعشائر الذي يدفع للمناصرة والمطالبة بالملك والمغالبة في سبيله ويدخل فيه الحلف والولاء وغير ذالك من صنوف التكتل والتحالف القبلي"، ويقول محمد عابد الجابري فى كتابه معالم نظرية ابن خلدون: "العصبية رابطه اجتماعية نفسية تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطاً مستمراً يشتد عندما يكون هناك خطر يهددهم أو هي قوة جماعية تمنح القدرة على المواجهة سواء كانت المواجهة مطالبه أو دفاعاً".
لذلك فإن نظرية العصبية يمكن تطبيقها على الجماعة أو الدول أو الأحزاب، حتى المؤسسات، إذ يرى جاسم السلطان في كتابه "فلسفة التاريخ": "إن نظرية العصبية تنطبق على أكثر من مجرد القبيلة التي كانت تتحرك برابطة الدم فهو ينطبق على الحزب السياسي إذا اجتمعت في أتباعه هذه الصفة، وينطبق على الجيش إذا تحول إلى حزب سياسي يمتلك هذه الرابطة".
ويلفت العلماء إلى أن التعصب الديني يعدّ من أخطر أنواع التعصب وأشدها خطراً على الإنسان وعلى المجتمع ذلك أن الدين له عمق في نفس الإنسان وتأثير كبير على شخصية المتدين، فإذا ارتبط التعصب بالتدين أصبح أكثر عمقاً وتغلغلاً في النفس مما يدفع صاحبه إلى أسوأ الأفعال والأعمال.
التعصب الديني جريمة مزدوجة لأنه يتضمن يقيناً ممارسته باسم الله وتلبية لأوامره، بل إنه يتقرب إلى الله في ذلك، وتكمن خطورة التعصب حين يتحول إلى اتجاه عند الإنسان وفي المجتمع, ومفهوم الاتجاه في تحليل علماء النفس يتكون من ثلاثة أبعاد مترابطة هي: المكوّن المعرفي ويقصد به المفاهيم والتصورات والمعتقدات, والمكوّن الوجداني ويقصد به المشاعر الوجدانية الداخلية, والمكوّن السلوكي ويقصد به الميول والاستعدادات السلوكية، وتحول التعصب إلى اتجاه يعني أن يتحول التعصب إلى توجهٍ ثابتٍ أو شبه ثابتٍ, بحيث يوجه سلوك الإنسان, ويرسم على أساسه خطواته ومواقفه، ومن هنا يصبح العلاج محتاجاً لعملية معرفية تقوم على أسس علمية ونقدية لكل مدخلات الثقافة والفكر.
ويجب النظر للعلوم الدينية بوصفها منتجاً إنسانياً قابلاً للنقد والتعديل والتطوير من دون إصباغ صفة القداسة عليها وتحريم الاقتراب منها, والنظر إليها على أنها المثال المطلوب الذي يجب اتباعه واقتفاء أثره.
- يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.