جدليَّة الأخلاق والدّين: التأسيس الأخلاقي للدّين

الرابط المختصر

تُعدُّ جدليَّة الأخلاق والدّين من بين الإشكالات الأساسيَّة التي حظيت باهتمام الفلاسفة والمفكرين والباحثين، المهتمين بالقضايا الفلسفيَّة والفكريَّة، وخاصَّة القضايا المتصلة بالعلاقة الجدليَّة الحاصلة بين الأخلاق والدّين، بما هي علاقة بين الكوني والخصوصي، أو بما هي علاقة بين ما ينبغي فعله، والغاية المنتظرة من هذا الفعل؛ فإذا كانت الأخلاق تتمثل فيما ينبغي على الإنسان فِعله أو سُلوكه، وليست لها منفعة أو غاية ماديَّة، وإنَّما غايتها في ذاتها، فإنَّ الدّين يتمثل في الغايات التي يُريد الإنسان تحقيقها، ولذلك غايته ماديَّة ومنفعيَّة محضة؛ غير أنَّ هذا الاهتمام ليس حديثاً، وإنَّما قديماً، حيث انكشف في المجتمعات العربية الإسلاميَّة ابتداءً من القرن العاشر الميلادي، حينما بدأ النقاش في أوساط الباحثين والمفكرين والفلاسفة حول العلاقة الحاصلة بين الأخلاق والدّين، ومعرفة ما إذا كانت العلاقة الحاصلة بينهما هي علاقة اتصال أم انفصال، ومن ثم معرفة ما إذا كانت الأخلاق هي التي تؤسّس للدّين، أم إنَّ هذا الأخير هو الذي يُؤسّس للأخلاق.

ولمْ يبق النقاش حول جدليَّة الأخلاق والدّين حبيس الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وإنَّما امتد ليشمل الثقافة الغربيَّة، حيث أثير هذا النقاش من جديد في الفترة الحديثة، وخاصَّة في القرن الثامن عشر الميلادي، حينما انكشف التناقض الكامن في السلوك الإنساني؛ أي التناقض الحاصل بين سلوك الإنسان المتديّن وسلوك الإنسان المتخلق، ومن ثم تبدّى أنَّ هذا الأخير أفضلُ مَنزلة من سلوك الإنسان المتديّن. ولكنَّ، قبل الخوض في تفكيك وتحليل هذه الجدليَّة، وتبيان مُختلف القضايا والمفارقات التي تثيرها، لابدَّ أولاً من صياغة بعض الإشكالات المهمَّة والأساسيَّة؛ لأنَّها تفتح المجال لإعمال الفكر بكل آلياته التي ترمي إلى النقد والتجديد، وليس إلى الاجترار والتقليد، وهذا ما سنسعى إلى إبرازه في هذا المقال، فما المقصود بالأخلاق؟ وما المقصود بالدّين؟ وما العلاقة الحاصلة بينهما؟ هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟ ومن يؤسّس للآخر؟ هل الأخلاق هي التي تؤسّس للدّين أم الدّين هو الذي يؤسّس للأخلاق؟

يُشير مفهوم الأخلاق على المستوى اللغوي إلى لفظ الخُلْقُ والخُلُقُ: السَّجيَّة. ويُقالُ: خالِصِ المؤمن وخالِقِ الفاجر. والخُلُقُ، بضم اللام وسكونها: وهو الدّين والطبْع والسجيَّة، وحقيقته أنَّه لصورة الإنسان الباطنيَّة، وهي نفْسه وأوصافها ومعانيها المختصةُ بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثوابُ والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنيَّة أكثر ممَّا يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرَّرت الأحاديث في مَدح حُسن الخلق في غير موضع[1]. أمَّا على المستوى الاصطلاحي، فإنَّ مفهوم الأخلاق يُشير إلى جُملة من المبادئ "Principes" أو المعايير "Normes" المتعلقة بالخير والشر، والتي تتيح إمكانيَّة النظر في الأفعال الإنسانيَّة، ومن ثم الحكم عليها بالقبول وعدم القبول؛ فهذه المعايير بمثابة نواميس كونيَّة، تنطبق على كل الأفراد من دون استثناء، على الرغم من اختلاف المجتمع الذي ينتمون إليه؛ لأنَّ أساسها كوني وليس خصوصيا[2].

هكذا، يتبدى إذن، أنَّ القاعدة الأخلاقية تتسم بالكونيَّة؛ فما يُعدُّ خيراً بالنسبة إلى مجتمع ما، فإنَّه يُعتبر كذلك عند المجتمعات الأخرى، وما يُعدُّ شرّاً بالنسبة إلى مجتمع ما، فإنَّه يُعتبر كذلك عند المجتمعات الأخرى؛ أي ليس هناك اختلاف بين المجتمعات فيما يتعلق بالمبادئ أو المعايير الأخلاقيَّة، على عكس الدّين، الذي يختلف وينعدم من مجتمع لآخر. ولكنَّ، ما المقصود بالدّين؟ وما علاقة الدّين بالأخلاق؟

يُحِيلُ مفهوم الدّين على المستوى اللغوي إلى لفظ الطاعة، وقد دِلْته ودِنْتُ له أَطعته. ويُقالُ: دانَ بكذا ديانة، وتَدَيَّنَ به فهو دَينٌ ومُتَدَيّنٌ. ودَيَّنْتُ الرجل تَدْييناً: إذا وكلته إلى دِينه. والدّين: الإسلام، وقد دِنْتُ به. والدّينُ: العادة والشأْن، تقول العرب: ما زَال ذلك دِيني ودَيْدَني؛ أي عَادتي. وقيل: الدّينُ لا فِعْلَ له[3]. أمَّا على المستوى الاصطلاحي، فإنَّ مفهوم الدّين هو وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى أنَّ الله مبدأ الدّين، إذ هو وضع إلهي، والرسول هو متلقيه، وحامله، ومؤيّده، وأمَّا وسطه فهو الإنسان العاقل المكلّف، وأمَّا غايته فصلاح الإنسان وخيره في الحال والمآل؛ أي في الدنيا والآخرة، بالانقياد إلى أحكام هي جُملة من العقائد والأعمال التي وضعها الله أو الشارع[4].

يَبدو أنَّ العلاقة الحاصلة بين الأخلاق والدّين ليست علاقة اتصال، وإنَّما انفصال؛ لأنَّ الأخلاق لا تصبو بتاتاً إلى تحقيق غاية أو منفعة بعينها، فهي تبحث فيما ينبغي عمله؛ وبمعنى حصري أدق، فإنَّها تبحث فيما ينبغي فعله أو سلوكه، ولذلك تركز بشكلٍ أساسي على تقويم اعوجاج السلوك الإنساني باعتباره سلوكاً غير مقبول، وذلك من خلال جُملة من المبادئ والمعايير الأخلاقيَّة، التي من شأنها أن تُصلحه، ومن ثم تجعله سلوكاً مقبولاً داخل المجتمع. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الدّين يرمي إلى تحقيق غاية أو منفعة بعينها، والمتمثلة أساساً في نيل الثواب من العذاب يوم القيامة، ولهذا يُركز الدّين بشكلٍ أساسي على الغايات والمنافع المرجوة من الفعل، الذي يُعدُّ هاهنا ليس غاية في ذاته، وإنَّما مُجرد وسيلة لتحقيق الغاية المتمثلة في المآب والرجاء، وتحقيق الأهداف المرجوة من فعل التديّن والتعبّد.

من الواضح أنَّ الأخلاق مُنفصلة عن الدّين، وهذا الانفصال هو الذي يُفسّر وجود أفراد غير مُتديّنين، ولكنَّهم مُتشبّعون بالأخلاق. وفي هذا الصدد، يَسأل أبو حيان التوحيدي ابن مسكويه، إذ يقول: "ما الذي حرَّك الزنديق والدَّهْري على الخير، وإيثار الجميل، وأداء الأمانة، ومواصلة البِرّ، ورحمة المبتلى، ومعونة الصَّرِيخ، ومَغُوثَةُ الملتجئ إليه والشَّاكي بين يديه؟"[5] هذا وهو لا يرجو ثواباً يوم القيامة، ولا ينتظر مآباً، ولا يخاف حساباً، وفي المقابل نجد المؤمن أحياناً قد لا يُقْبِلُ على فعل الخير. فما الباعث على هذه الأخلاق الشريفة والخصال المحمودة رغبته في الشكر وتبرُّؤه من القَرْف وخوفه من السيف؟ قد يفعل هذه في أوقات لا يُظَنُّ به التوقِّي ولا اجتلاب الشكر، ما ذاك إلا لخفية في النفس وسِرٍّ مع العقل. وهل في هذه الأمُور ما يُشير إلى توحيد الله تبارك وتعالى؟[6]

يَرُدّ ابن مسكويه على هذه الأسئلة بالقول، إنَّ للإنسان ــ بما هو إنسان ــ أفعالا وهِمَما وسجايا وشِيَما قبل ورود الشرع، وله بداية في رأيه وأوائل في عقله لا يحتاج فيها إلى الشرع، بل إنَّما تأتيه الشريعة بتأكيد ما عنده والتنبيه عليه، فتُثير ما هو كامن فيه وموجود في فطرته قد أخذه الله تعالى عليه وسطَّره فيه من مبدأ الخلق؛ فكل من له غريزة من العقل، ونصيب من الإنسانيَّة ففيه حركة إلى الفضائل، وشوق إلى المحاسن، لا لشيء آخر أكثر من الفضائل والمحاسن التي يقتضيها العقل وتُوجبها الإنسانيَّة، وإن اقترن بذلك في بعض الأوقات محبة الشكر وطلب السمعة والتماس أمور أُخَر[7]. ممَّا يعني هذا القول، إنَّ الأخلاق مُنفصلة عن الدّين؛ فليس كل مُتديّن بمتخلق، وما كل مُتخلق بمتديّن؛ معنى هذا أنَّ هناك انفصالا بين أن تكون مُتخلقاً، وأن تكون مُتديّناً. وبموجب هذا التصوّر، تنتفي صحَّة القول الذي قيل منذ زمان طويل، والمتمثل أساساً في كون سبب نكبتنا هو أنَّنا تخلينا عن ديننا، علماً أن قائل هذا الكلام يعلم بأنَّه، وهو مُتشبث بدينه، قد يكون خلقه أسوأ شيء يكون؛ فأشدّكم ذكراً لله، أبعدكم عنه بتعبير شهاب الدّين السهروردي "Shahab al-Din Suhrawardi".

هكذا، يتبدى إذن، أنَّ الأخلاق لا تحتاج أبداً فيما يتعلق بذاتها ــ سواء موضوعيّاً فيما يخصّ الإرادة أو ذاتيّاً فيما يخصّ الاستطاعة ــ إلى الدّين؛ لأنَّها بفضل العقل المحض العملي مُكتفية بذاتها؛ فهي لكي تصبح قوانينها مُلزمة عبر الصورة المجرَّدة للشرعيَّة الكليَّة للمسلمات، التي ينبغي أن تؤخذ طبقاً لها بوصفها شرطاً أسمى ــ غير مشروط في ذاته ــ للغايات، فإنَّها لا تحتاج بتاتاً إلى أيّ سبب مادّي لتعيين المشيئة الحرّة؛ بمعنى إلى أيّة غاية أو منفعة بعينها، وذلك ليس من أجل أن تعرف ماذا يكون الواجب، ولا أن تحضّ على القيام به، وإنَّما حتى تستطيع أن تضع له تصوّراً دقيقاً، باعتباره فعلاً عقليّاً عمليّاً، وينبغي عليها حين يتعلق الأمر بالواجب، أن تتجرّد من كل الغايات. ممَّا يعني هذا القول، أنَّ الأخلاق إنَّما تقود على نحو لابدَّ منه إلى الدّين، ومن خلال ذلك تتوسَّع الأخلاق إلى حد فكرة مُشرّع خلقيّ واسع القدرة، خارج عن الإنسان، وفي إرادته تكمن تلك الغاية النهائيَّة لخلق العالم، والتي يمكن ويلزم أن تكون الغاية النهائيَّة[8].

حاصل القول، إنَّ جدليَّة الأخلاق والدّين التي ما فتئت تنكشف في المجتمعات المتديّنة وغير المتديّنة، شكلت وما تزال تشكل إشكاليَّة صعبة، نظراً لِمَا تطرحه من غموض، مردُّه بشكلٍ أساسي إلى الاعتقاد الخاطئ بأنَّ الدّين سابق على الأخلاق، وإنَّ الأخلاق لا توجد إلا حينما يوجد الدّين، ومن ثم فإنَّ العلاقة الحاصلة بينهما هي علاقة اتصال لا انفصال؛ غير أنَّ المتأمل في المجتمعات المتديَّنة وغير المتديَّنة يَكتشف غير ذلك، إذ يلاحظ وجود أفراد غير مُتديّنين، من قبيل الزنديق والناكر والدَّهري، ولكنَّهم مُتشبعون بالأخلاق، ويُقبلون على فعل الخير والتعاون والتضامن، ويَطلبون الفضائل، ويَبتعدون عن الرذائل، ويَسعون إلى تحصيل السعادة، الشيء الذي يعني أنَّ الأخلاق مُنفصلة عن الدّين، وسابقة عليه. ولذلك، فإنَّ الأخلاق تؤدي لا محالة إلى الدّين، ولكنَّ الدّين لا يؤدي بالضرورة إلى الأخلاق؛ لأنَّ هناك أفرادا مُتديّنون وليسوا ذوي أخلاق. ولهذا يلزم التأسيس الأخلاقي للدّين، وذلك من أجل أن ينتفي التناقض الحاصل بين المؤمن وسُلوكه؛ فهو يؤمن بالدّين الذي أكد على ضرورة التحلّي بالأخلاق، ولكنَّ سُلوكه يذهب عكس ذلك تماماً، ومن ثم يُقبل على فعل الرذائل، في حين أنَّه ينبغي أن يُقبل على فعل الفضائل، ويَبْتَعِد في المقابل عن الرذائل.

 

[1] ابن منظور، لسان العرب، الجزء الرابع، بيروت، درا إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1999، ص. 194

[2] Monique Canto-Sperber et Ruwen Ogien, La philosophie morale, Paris, Presse universitaires de France – PUF, Quatrième édition, 2017, p. 4

[3] ابن منظور، لسان العرب، الجزء الرابع، مرجع سابق، ص.ص 460-461

[4] فهمي جدعان، المحنة: بحث في جدليَّة الديني والسياسي في الإسلام، بيروت، الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر، الطبعة الثالثة، 2013، ص. 327

[5] أبو حيان التوحيدي وابن مسكويه، الهوامل والشوامل، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2017، 190

[6] المرجع السابق، ص. ص 190-191

[7] المرجع السابق، ص. 191

[8] إيمانويل كانط، الدين في حدود مجرد العقل، فتحي المسكيني، الكويت، جداول، الطبعة الأولى، 2012، ص.ص 47-48

*المصدر مؤمنون بلا حدود