إنّ الناظر في الفرق الإسلامية؛ تاريخ نشأة وتشكّل مقالات ومباحث كلامية، يقف على تنوّع المشاغل المعرفيّة والعقديّة التي استأثرت بعناية المتكلمين القدامى، أمثال أبي الحسن الأشعري (ت 324هـ /935م) والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415هـ /1024م) من ناحية، ومؤرخي الفرق، ومنهم عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1037م) في كتابه "الفرق بين الفرق"، وابن حزم (ت 456هـ/1063م) في مؤلّفه "الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل"، والشهرستاني (ت548هـ/1153م) في مصنّفه المعروف "الملل والنِّحل" الجزء الأوّل منه، من ناحية أخرى؛ فنحن في هذا الباب لا نجد تمثّلاً واحدًا للمعرفة الدينيّة ولا تأويلاً مفردًا للعقيدة الإسلاميّة. ونفسّر هذا الوضع بتباين المنطلقات الفكريّة واختلاف الضوابط المنهجيّة التي استأنس بها المتكلّمون في مقاربتهم نصّ المصحف، وفي تعاملهم مع الإنتاج الديني السائد في عصورهم.
في هذا الباب، لا نجد تمثّلاً واحدًا للمعرفة الدينيّة ولا تأويلاً مفردًا للعقيدة الإسلاميّة. ونفسّر هذا الوضع بتباين المنطلقات الفكريّة واختلاف الضوابط المنهجيّة التي استأنس بها المتكلّمون في مقاربتهم نصّ المصحف، وفي تعاملهم مع الإنتاج الديني السائد في عصورهم.
ونعتقد أنّ مقالات الإسلاميّين لم تول اعتبارًا مهمًّا في بلورتها لتطوّر المجتمع، وما يقتضيه من حاجات ورهانات توجّهها ضغوط التاريخ بكلّ أبعاده السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بل خضعت تلك المقالات، أكثر ما خضعت، لتطورّها الداخلي باستثناء فرقة أهل السنة، لأنّها استوعبت، بدءًا من القرن الخامس هجريًا، جّل الفرق الإسلامية من أهل حديث وصفاتيّة وأشعريّة ومرجئة...الخ، ومن ثم نَجَم مجمّع كلامي واحد عبّر عن خوف المسلمين من الفُرقة.
على أنّ الدراسات المعاصرة المتخصصة في علم الكلام الإسلامي، بيّنت أهمّيّة العلاقة بين المقالة الكلاميّة والسياق الاجتماعي العام الذي تولدّت منه، وتطوّرت على التدريج واستقرت على هيأة مخصوصة. ويكفي ههنا الاستشهاد بالعمل الضخم المتميّز الذي أنجزه المستشرق الألماني الكبير يوسف فان آس (Joseph Van Ess) تحت عنوان: "علم الكلام و المجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة". وفي هذا السياق، نوّه عبد المجيد الشرفي بالكتاب قائلاً: "إنّ طرافة المقاربة التي يعتمدها فان آس تكمن بصفة خاصة في التنقيب عن عوامل النشأة وعن الحلقات المفقودة وعن التأثيرات المحتملة لكلّ من الأوضاع الأسرية والاقتصادية والبيئية والسياسية؛ فمقالات علَم من الأعلام أو فرقة من الفرق ليست البتّة منسلخة عن ظروف تكوينها، وليست مواقف أو آراء جاهزة يتلقفها التلميذ عن الشيخ بقدر ما هي بنى تتراكم مكوّناتها وتتفاعل، وحلول لمشاكل معرفية وعقدية تستجيب لمتطلّبات اللحظة وتحاول التوفيق بين مقتضيات متناقضة." (من تقديمه لكتاب فان آس، بدايات الفكر الإسلامي :الأنساق والأبعاد، ط1، نشر الفنك، الدار البيضاء، 2000، ص 7).
إنّ وجود المجمّع الكلامي سالف الذكر، لا يعني أنّ الفكر الكلامي السنيّ هو المؤهل أكثر من غيره كالفكر المعتزلي أو الشيعي أو الخارجي للتعبير عن العقيدة "الصحيحة" أو عن الإسلام "الحقّ"، والمبدأ نفسه يصحّ على غير أهل السنّة. ولذلك، نبّه المنصف بن عبد الجليل إلى ما يمكن أن يعلق بالأذهان من وهم التكلّم، بصيغة المفرد في تقرير فهم وحيد للعقيدة. قال: "الأظهر في نظرنا، أنّ العقائد الإسلامية قد شهدت منذ الفتنة الكبرى، إن لم يكن قبلها، نظرًا جلاّها في مقالات تنازعتها طوائف من المسلمين وظهرت متزامنة تقريبًا، وناظر بعضهم بعضًا في مسألة الإمامة أصلاً. وقد احتدّ وعي أهل الإسلام بجريان العقيدة في شوؤن الاجتماع، فاندفعوا إلى النصّ القرآني يستقصون مقاصده ويفتّشون في أحكامه. فكانت أقاويلهم عبارة عن شؤون تعبّدهم ولسان حالهم بقولهم : تعبّدوا وتكافأوا، وظنّ كل واحد منهم أنّه الحافظ للدين." (الفرقة الهامشية في الإسلام. ص 1،1999، تونس، ص 36).
بيّنت الدراسات المعاصرة المتخصصة في علم الكلام الإسلامي، أهمّيّة العلاقة بين المقالة الكلاميّة والسياق الاجتماعي العام الذي تولدّت منه، وتطوّرت على التدريج واستقرت على هيأة مخصوصة
إنّ جلّ ما يميّز الفرق الإسلامية الكبرى من مقالات يردّ عند الفحص، إلى أصل واحد. فقد تعلقت الخوارج بالنصّ الديني تعلّقًا ظاهرًا على نحو عبّرت معه عن نزعة طُهرية، اختصّت بها وحدها من سائر الفرق الإسلامية. ونعتقد أنّ هذا الوجه من وجوه التميّز هو الذي يفسّر، إلى حدّ بعيد، استمرار الفكر الخارجي إلى اليوم في أكثر أجنحته اعتدالاً، وهو الإباضيّة. (أتباعها اليوم موجودون خاصة في عُمان و في جزيرة جربة التونسيّة). ويبدو أنّ الإرهاصات الأولى لتلك النزعة الطُهرية قد وجدت منذ المرحلة الأولى لتشكّل الاتجاه الإباضي تعويلاُ على الآراء المنسوبة إلى عبد الله بن إباض.
أمّا الشيعة، فإنّ الأصل العقدي المهيمن على مقالاتها كان دون شكّ مبحث الإمامة؛ فهو قطب الرحى الذي يدور حوله تفكيرهم المتعلق بالنبوّة والوحي والاجتماع والمصير الإنساني. فمفهوم الشيعة للإمامة وتصوّرهم لضوابطها، وخوضهم في مصدر سلطة الإمامة وما ينهض به من مهام، كل ذلك وجّه مواقفهم من القضايا الكلاميّة التي كانت محلّ جذب ودفع بين الفرق الإسلاميّة كلّها. ولا عجب أن يتمّ استثمار مقالة الإمامة في المجال السياسي الحديث والمعاصر لدى المنتصرين للفكر الإمامي الإثني عشري، إلى حدّ أنّه أفضى إلى قيام دولة الفقيه الولي في إيران بعد ثورتها الإسلامية سنة 1979. (للتوسّع يراجع العمل المتميّز لعلي صالح مولى بعنوان"من الإمام المعصوم إلى الفقيه الولي: الديني والسياسي عند الإمامية الإثني عشرية، الطبعة الأولى، تونس 2011).
إذا جوّدنا النظر في مقالات المعتزلة ألفيناها راجعة إلى مبحث التوحيد، وهو عندهم أصل الأصول بلا منازع
وإذا جوّدنا النظر في مقالات المعتزلة ألفيناها راجعة إلى مبحث التوحيد، وهو عندهم أصل الأصول بلا منازع، حتى أنّ أهل الاعتزال كانوا يتباهون بتسميتهم بأهل التوحيد، و لذلك أوْلوا الأصل المذكور فائق العناية ومحمود الاهتمام، وتوسّعوا في تدبّر مسائله توسّعًا لا يخفى على الأذهان اللطيفة، فقاموا بتأسيس نظري فلسفي في علم الكلام، به تغذّت المنظومة الدينية الكلامية وعليه أقامت مرتكزاتها.
ولا يذهبنّ الظن بالدارس إلى أنّ الأصل الكلامي المهيمن لدى المعتزلة يفسّر بأسبقيّته تاريخيًّا في التكوّن والنشأة مبحثًا من مباحث علم الكلام. ذلك أنّ ما قررّه مؤرخو الفرق الإسلامية هو اعتبار أصل "المنزلة بين المنزلتين" نقطة البدء التاريخية لقيام التيار الاعتزالي إثر خروج واصل بن عطاء عن حلقة أستاذه الحسن البصري لقوله بأنّ مرتكب الكبيرة منافق.
ويبدو أنّ تعلّق المعتزلة بأصل التوحيد مرّده إلى انشغالهم بصوغ تصوّر تنزيهي لله ذاتًا وصفات، حتى يمكن لهم التصدي بقوة الحجّة والبرهان لمقالات "المشبّهة " أو المجسّمة"، وقد عدّت الصفاتية وفرق "الغلاة" من الشيعة من المشبّهة.
أمّا مشاغل أهل السنة، فقد كانت مفارقة لاهتمامات سائر الفرق الإسلامية، إذ عملت العقيدة السّنية السائدة على تصويب ما حصل في التاريخ الإسلامي من ممارسات سياسية ومواقف فكرية، وتبرير ذلك كلّه تبريرًا دينيًّا يحتمي بسلطة الخبر من ناحية، ويلوذ بتجربة "السلف الصالح " من الأمّة الإسلامية من ناحية أخرى، خاصّة بعد أن أُضفِيت القداسة على الأجيال الأولى من المسلمين ؛ الصحابة والتابعين، في ما أُثِر عنهم أو نسب إليهم من أقوال وأفعال. وينبغي، ههنا، التمييز بين فرقتين في إطار أهل السنّة هما:
-فريق رافض لعلم الكلام معترض على مشروعيته في التعامل مع قضايا العقيدة الإسلامية تمثّلاً وتأويلاً. ومن ثم لا تستغرب أن تناوئه الأشعرية في القرن الخامس للهجرة، وترى فيه خطرًا على عامّة المسلمين، لأنه يزعزع إيمانهم ويدعوهم إلى مراجعة مسلمّات العقيدة مراجعة عقلية بقطع النظر عن تسييج العقل في الإسلام بمسلّمات إيمانية. وتكفي هنا العودة إلى كتاب أبي حامد الغزالي (505هـ/1111م) "إلجام العوامّ عن علم الكلام" للتأكّد من صحّة ما ذهبنا إليه.
مشاغل أهل السنة كانت مفارقة لاهتمامات سائر الفرق الإسلامية، إذ عملت العقيدة السّنية السائدة على تصويب ما حصل في التاريخ الإسلامي من ممارسات سياسية ومواقف فكرية
-فريق آخذ بعلم الكلام في فهم العقيدة وتدبّر قضاياها، ويبدو أنّ القصد من التعويل على علم الكلام لدى ممثّلي هذا الفريق هو التصدّي، من منطلق تقديم النقل على العقل، للاتجاهات الكلاميّة التي فرضت نفسها تاريخيًا، وهي اتجاهات بالغت من منظور خصومها في استخدام العقل في مقاربة العقيدة الإسلامية، مثلما هو الحال لدى المعتزلة من ناحية، أو غالت و جاوزت الحدّ في تأويل القرآن، فأقامت عقيدة مباينة لعقيدة الإسلام السائدة كما هو الشأن لدى فريق الشيعة من ناحية أخرى. وفي هذا السياق ألّف أبو الحسن الأشعري كتاب "رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام "، وكتاب "الإبانة عن أصول الديانة".
ولا مناص لنا من ملاحظة أنّ مقالات الفرق الإسلامية، قد تكوّنت في أوضاع تاريخيّة واجتماعيّة محدّدة وفي أطر معرفية دقيقة عكست الآفاق الذهنية لأصحاب تلك المقالات. وذلك لأنّ المقالات قد تشكلّت بدوافع عديدة متداخلة من سياسة واجتماع وثقافة ربّما يعسر إقامة الحدود الفاصلة بينها، وهو ما يثبت عندنا تاريخيّة هذه المقالات المعبّرة عن كبريات الفرق الإسلامية من شيعة ومعتزلة وأهل سنّة وخوارج.
ومن ثم، فإنّ المقالات تستدعي توفّر سياق اجتماعي ملائم يساعد على الاحتفاء بفكر ناشئ يطمح إلى تأسيس نظرة جديدة إلى العالميّات والأخرويّات. فلا بدّ إذن من وجود "إطار اجتماعي للمعرفة"، وهو مصطلح مستعار من مناهج العلوم الاجتماعية، وقد عرّفه محمد أركون بالقول: "الأطر الاجتماعية للمعرفة هي التي تستقبل الفكر الفلسفي أو لا تستقبله، هي التي تتيح له أن يزدهر أو تضيّق عليه الخناق، وقد كانت هذه الأطر متوافرة في القرون الأولى من الإسلام، وبخاصّة في القرنين الثالث والرابع. فازدهرت العلوم والفلسفات بشكل لم يسبق له مثيل" (من حوار مع أركون، ضمن مجلة "دراسات عربية"، العددان 5 و 6، مارس أفريل 1998، ص 37) .
فالفرقة أوّل ما تنشأ تعبّر عن مشروع فكري ناهض بوظيفة تأويل جديد للنص القرآني. ثمّ تتشكّل أسس ذلك المشروع شيئًا فشيئًا بحسب ما توفّره المعرفة السائدة من إمكانات بحث ونظر ومناهج استدلال وحجاج، ولا نعدم في هذا الطور الأول من قيام المقالة غلبة الاضطراب عليها في مستوى التّصور العقدي والأساس الذي يقوم عليه، فضلاً عن تداخل القضايا الكلامية في الأصل الكلامي الواحد.
مقالات الفرق الإسلامية تكوّنت في أوضاع تاريخيّة واجتماعيّة محدّدة وفي أطر معرفية دقيقة عكست الآفاق الذهنية لأصحاب تلك المقالات
وإذا لم يبق للفرق الكلامية اليوم حضور، فإنّنا نتبّين آثارًا لمناهجها في الفكر الإسلامي الحديث، من ذلك تأثر الحركة الوهّابية بالاتجاه الحنبلي. فقد تأثر مؤسّس الحركة محمد بن عبد الوهاب (ت1792م) بتعاليم ابن تيميّة (ت728هـ/1327م)، وعّول على العمل العسكري لتثبيت مبادئ الحركة في الحجاز ونجد.
أمّا الأشعرّية، فإنّ مبادئها الكلامية قد اندرجت في الفكر السنّي بالمشرق العربي، وتجلّت خاصة في سلفية عدد من رجال الإصلاح زمن النهضة العربية الحديثة أمثال الأفغاني (ت1897م) ورشيد رضا (ت1935م).
وبالنسبة إلى الفكر الشيعي الإمامي، فإنّ قسمًا مهمًّا من مكوّناته، مثّل مرتكزات وأسسًا مرجعية استند إليها النظام السياسي الإسلامي القائم اليوم في إيران، سواء من جهة تصوّر العلاقة بين الدين والسياسة أو من جهة النظام التراتبي الذي تقوم عليه ممارسة السلطة السياسيّة ذاتها.