هذا المقال هو مقاربة لمعنى الدرويش الذي لمسته واقعًا، وحاولت فيه أن أعبّر عن الصورة التي تشكّلت لديّ من خلال زياراتي لمقامات الأولياء والموالد المصرية، وتتبعتُ ما كُتب عن معنى الدرويش في الأدبيات العربية، سواء في المجلات والدوريات أو الكتب، وعبّرت عن ذلك في لغة أدبية، وأرفقت بالهوامش ما يساعد الباحث أو القارئ على تتبّع المعنى في مظانّه التي تيسّرت لي، وجاء المقال على الصورة التالية:
الدَّرْوِيشُ هو : الزاهد أو الفقير أو الصوفي أو المسكين أو الجوّال أو المتسوّل أو النّاسك. بهذا تقولُ أغلب المعاجم في شرح معنى الكلمة في اللغة([1])، وتردُّ أصلها إلى اللسان الفارسي. ويعرفها الناس في كثيرٍ من البلاد بهذا المعنى؛ ففي الحضر والبادية وفي الحجاز ومصر والسودان والشام وإيران وتركيا لا تخرج الكلمة عن هذه المعاني، ويغلبُ ارتباطها بالفقر([2]) والحكمة ومعرفة أمور الطب، ويطلبهم الناس وقت الشدّة كي يستريحوا بحملهم مشاكلهم عنهم وما يؤرقهم في حياتهم، كونهم مجاهيل، ما يُسرد لهم من تفاصيل التعب لن يُنشر أو يحكى في سياق آخر. فالدرويش يذيب ما ألقي إليه من أحمال الآخرين بمجرد إخراجها مهما ثقُلت، ويستطيعُ بيديه البيضاوين وقلبه الخالي من الدنيا أن يرسم البسمة على قلوب التعساء.
الدرويش يذيب ما ألقي إليه من أحمال الآخرين بمجرد إخراجها مهما ثقُلت، ويستطيعُ بيديه البيضاوين وقلبه الخالي من الدنيا أن يرسم البسمة على قلوب التعساء.
الدراويشُ مجانين الله يديرون وجوههم عن دنيا الخلائق، تظهر في وجوههم الفرحة، وربما انطوت قلوبهم على كثير من الأحزان ... مشرّدون عن خراب الهياكل التي ترى في ترنّحها وكذبها ونفاقها وجريها وراء الزائف حياة ... يمارسون الحياة عبر مذاقات لا تُدرك وفلسفة لا يبلغها أهل الأوراق والدفاتر. يتحققون بقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلا يطلبون سواه.
الدَّروشَةُ بخلاف التّصوّفِ ... أو قُل هي لونٌ من ألوان التصوف في البدايات يكون وفي النهايات يحدث، أو نتيجة من نتائج أحوال القوم الصوفية تغلبُ على العوام عند العوام. لا تجدها عند من يعتبرهم العامةُ شيوخًا وأكابر.
الدرويشُ هو الذي يرقصُ ... وهو صاحبُ الحضورِ في حلقة الذكر وحده، الدرويشُ هو القائمُ، والشيخُ هو القاعدُ.
الدرويشُ (رجلٌ فقيرٌ ذو قلبٍ كبير)[3].
الدرويشُ هو الذي يرقصُ ... وهو صاحبُ الحضورِ في حلقة الذكر وحده، الدرويشُ هو القائمُ، والشيخُ هو القاعدُ.
الدرويشُ هو الذي يكتفي بفُتات الطعام، والشيخُ هو الذي يجلس معزّزًا مكرّمًا وعلى مائدته صنوف الأطعمة والفواكه والحلوى، إن استطاعوا أن يقطفوا من ثمار الجنة للشيخ قطفوا وقدّموا. أما الدرويش، فتكفيه شربة الماء الراكد.
الدرويشُ يُهلّل ولا يُهلل له.
الدرويشُ صورة للذكرى، والشيخُ حياة للهياكل.
الدرويشُ لا يمكنُ مسّ يده التي تفتت على بساط الصلاة وعلى تراب المراقد. أما الشيخُ، فالناس تقبّل يديه ورجليه.
الدرويشُ هو الذبيح، والشيخُ هو الأُمّة إبراهيم .
الدرويشُ يعلو على ملذات الحياة ... يترك الزينة وما يطلبه ويرغب فيه أكثر الناس.
يَقْنعُ الدرويشُ بسقوطه في أعين النّاسِ ... وينصرف عن تأسيس البيت وبناء الأسرة ويتّجهُ بكلّيتِه نحو السّماءِ... لا يعرفُ سوى الله ... ولا يرتبطُ بغيره ... فهو جوّال بين الناس، لا يستقرُ له مقام ولا تحده حدود أوطان البشر ... يسعى كما أُريدَ به.
لغةُ الدّرويشِ كلُغةِ الوحيِ ولُغةِ الأديب وريشةِ الفنانِ... لا يقتربُ من فهمها أصحاب المنطق وعابدو الحروف والصور والتقسيمات... لغةٌ لا يمكن ترجمتها عبر اصطلاحات الحدود والقوالب... وحده صاحب الروح والقلب النابض من يمكنه إتقان هذه اللغة، حتى وإن لم يملك يومًا لسانًا.
الدرويشُ لا يعرف الأقسام والدرجات... لا يؤمن بالرُّتبِ ولا بالمقامات... لا ينظر عبر النوافذ... الدرويشُ منه له ... النهر له يجري ... والبساط ممدود قاعدًا كان أم واقفًا أو نائمًا، الدرويشُ لا يحتاجُ إلى الأسباب والمسببات.
لغةُ الدّرويشِ كلُغةِ الوحيِ ولُغةِ الأديب وريشةِ الفنانِ... لا يقتربُ من فهمها أصحاب المنطق وعابدو الحروف والصور والتقسيمات
الدرويشُ لا يستريحُ يوم السبت ولا يترقب الجمعة أو الآحاد ... لا ينتظر موعظة الكاهن أو الشيخ ... لا يحتاج لرقائق وأذكار ... الدرويشُ غائبٌ بالحق عن كل الزائفات.
الدرويشُ يفترشُ الأرض، لا يعرفُ الكرسيّ اللاصق أو العهد الإبليسي للغواية ...
الدرويش قمرُ السماء وحاملُ العرش، لا يجعل ظهره بساطًا لك، ويظل المثال الذي ترقبه وترجو أن تكونه للحظات ثم تعود إلى دركات الحياة.
الدرويشُ صرخةٌ صادقةٌ من القلب يحسبها الميّت زعيقًا من أجل الماء والخبز ... الدرويش يُطعم الكلاب والقطط مما تتصدق به أنت عليه من فتاتك.
الدرويشُ ليس لقميصه وجلبابه جيب أو كيس يحمل فيه شيئًا ... الدرويشُ هو الذي محا القميص وهدم الخزانة، ولم يبق له من نفسه سوى الصورة التي يحيا بها بين البشر... ورغم أنهم كلهم يلجأون إليه، إلا أنهم يأكلون ما بقي من لحمه وصورته حيًّا وميتًا ... يلجأون إليه في السرّ لصنع التمائم والأحراز والرُقى، ثم يتهكمون عليه إن مرّ في طريقهم، أو يتفكّهون بذكره وسيرته.
1 ـ في موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان - ج2 - مادة (الدال) يرد معنى الدرويش من خلال رؤية الشيخ محمد الكسنزان على النحو التالي : مُصطلح الدَّرْوَشَة في اللغة : « تَدَرْوَشَ الشخص : عَمِلَ عَمَلَ الدراويش» [المعجم العربي الأساسي – ص 449]. « الدَرْوِيش: المتعبِّد والزاهد. واللفظة فارسية، معناها: "فقير" [المنجد في اللغة والأعلام – ص 214]. وفي اصطلاح الكسنـزان. الدروشة: هي علم التصوّف، علم الروح، هي العلم الذي يوصل الإنسان إلى معرفة الله تعالى، وهو مبني على الأوراد والأذكار. الدروشة : يعني المنهج الذي اختاره الله سبحانه وتعالى للرسول. فهي مخ الإسلام، نواة الإسلام، لبّ الإسلام. الدروشة: هي أخذ البيعة؛ أي الطريقة. الدروشة: هي الأخلاق الحميدة. الدروشة: هي الذوق. الدروشة: هي السلوك: يعني الالتزام للوصول إلى هدفك، وتعني المحبة، العبادة، الذكر، الصلاة، الزهد، التقوى، الصلاة، الصيام، الحج، الزكاة، المشاركة، فهي الإيمان والعمل الصالح، ولهذا فهي مبنية على الاعتقاد الخالص، ومحبة الإطاعة بدون تردد. الدروشة: هي الجهاد، جهاد النفس، والذي نسميه الجهاد الداخلي، فالمريد حين يحارب نفسه فإنه يحارب الشيطان، ومن يموت في هذا الجهاد، يموت شهيداً، لأن الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الدين..وقول الشيخ عبد القادر الكسنـزان الدروشة: القلب .
2 ـ قارن بحث أحمد حامد الصرّاف في مجلة لغة العرب الجزء الثاني من السنة السادسة شباط 1928م ص ص 81-91 حيث يعطي صورة سلبية للدرويش، ويخبر أن هذه الصورة ليست مقتصرة على مرويّات الكتب أو القصص، بل هي وليدة "نتيجة تحقيقه وثمرة بحثه الطويل استقاه من الدراويش مباشرة وأخذه من أفواههم" وتبرز صورة الدرويش في كتابته كمتسوّل لا صنعة له أو حرفة أو مريضاً أو مرتكبًا للرذائل وشاربًا للحشيش ومستخدمًا لكافة الوسائل الشيطانية لهتك الأعراض وتمزيق الآداب وإفساد الأخلاق! ويبدو شربه للحشيش طقسًا مهمًّا، فيخصص الصرّاف صفحتين من بحثه لدراسة شرب الدراويش للحشيشة وتأصيل ذلك من التراث الإسلامي، فيأتي ذكر (الحسن بن صباح) ويستشهد من روايات المقريزي بما يُعضّد آراءه.
في سياق آخر، نجد صورة الدرويش المخادع المستغل لما اكتسبه من كرامات وقدرات عجائبية، يقدّمها لنا ويلفريد ستابلشيز في قصته الملك والدرويش التي ترجمها محمد لطفي جمعة ونشرها في مجلة الرسالة السنة الثانية عدد32 مايو 1937م ص ص 430-436. فالدرويش يظهر في بداية القصة بصورة إيجابية لكنه يخفي خلف مرقعته نفسًا أكثر سواداً من غيابة الجُبِّ وأعمق من الآبار الناضبة، الدرويش يعرف اللغة السريانية ويتمتم بها تعاويذه ليسرق الأجساد، وينصب شباكه لاصطياد البشر. وجاءت قصة ويلفريد عقيب قراءته قصة "حاجي بابا الأصفهاني" وبعد اطلاعه على شعر الخيّام وآداب الجامي وحافظ والفردوسي، وقد دوّن أسفاره ورحلاته في مجلدين، وكتب بضع قصص قصيرة منها قصة الملك والدرويش. كذلك قارن رواية جيمس موريير مغامرات حاجي بابا الأصفهاني، وخاصة الفصل الخامس والأربعين الذي ظهرت فيه صورة (الدرويش)، نُشرت ترجمة هذا الفصل في مجلة الرواية بترجمة عبد اللطيف النشّار عن الإنجليزية العدد 50 - 15 فبراير 1939ص ص (155- 168).
3 ـ قارن ما كتبه محمد البقلي عن (الدروشة والدراويش) في مجلة الجديد 15 یونیو 1976 - العدد 107 ص ص 17-19 ومقاله في نفس المجلة بعنوان (الدرويش) المنشور في 1 أبریل 1979 - العدد 174 ص52