ثنائية نتنياهو- بن غفير: الوجه الحقيقي لإسرائيل

نعى الكاتب الأميركي، توماس فريدمان، في مقاله في "النيويورك تايمز" ما أسماها "إسرائيل كما نعرفها"، لصالح تيار اليمين المتطرّف الذي انتصر في الانتخابات الإسرائيلية، وكأن إسرائيل كانت نموذجاً للإنسانية والتحرّر. لكن موقفه مُتوَقّع، ويمثل غالبية "الليبراليين الصهاينة" والليبراليين الغربيين مؤيدّي إسرائيل، ليس خوفاً على الفلسطينيين، ولكن خوفاً على إسرائيل نفسها.

الحسرة على إسرائيل، كما عرفها فريدمان، وعبّر عن ذلك أكثر من كاتب صهيوني، تعكس حالة إنكار طبيعة المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الذي لا يمكن أن يكتمل بدون إنهاء الشعب الأصيل صاحب الأرض، وهي حالة إنكار حتمية انعطاف المجتمع الإسرائيلي إلى أقصى اليمين، فليس من مكانٍ في مخطط إلغاء تاريخ وذاكرة، بل هو محو شعب وهوية من دون الجهر والكشف عن عنصرية قبيحة من دون مواربة أو تجميل، أي إن الأمر بات واضحاً، وإنْ غير معلن، أنه لا يمكن انتصار المشروع الصهيوني من دون جعلها معركة "نحن أو هم" وأن لا مكان "لِهُم".

سياسياً، يُحرج انتصار اليمين المتطرّف، وإن كانت إسرائيل في عهد "حكوماتها اليسارية" يمينية الجوهر، إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي حذرت، خلف الأبواب، من سيطرة التيارات الفاشية على الحكم، فذلك يُفسد خطتها في احتواء الوضع المتفجر في فلسطين، وتوسيع عملية التطبيع التحالفية مع العالم العربي. إضافة إلى أن تصدُّر التحالف الأشدّ يمينية في تاريخ إسرائيل يجعل من الصعب على مدّعي الليبرالية الإسرائيليين والغربيين، والعرب، الدفاع عن الدولة الصهيونية وتسويق الاستسلام تحت شعار التآخي والحوار بين "أبناء إبراهيم". لذا كانت إدارة بايدن تراهن على بقاء يئير لبيد، "الوجه الحضاري الناعم" لائتلافٍ يميني، ففي ذلك تسهيل لمهمتها في الكونغرس وأمام الشعب الأميركي، فالرئيس لم يجد حرجاً بالتصريح أخيراً "إنه لو لم تكن هناك إسرائيل لوجب اختراعها"، فأتاه الرد من انتخابات أفرزت حكومة إسرائيلية جديدة لا تأبه بالشكليات، ولا تهتم بالحسابات الأميركية في المنطقة.

ترى واشنطن أن حساباتها تخدم إسرائيل وتحميها، لكن نتنياهو، العائد للمرّة السادسة وبقوة، رغم معارضة أميركا التي اعتقدت أنها تخلّصت منه، تجعل منه عبئاً عليها، فهو لا يريد أن يؤمن بتكتيكات أميركا، ويصرّ على أن إسرائيل هي التي تحمي المصالح الغربية، ولذا يجب أن تحدّد أهدافها، بما في ذلك توجيه ضربة عسكرية لإيران، إذا ارتأت، حتى لو كان كلامه كما ثبت من قبل ضجيجاً لتعبئة الإسرائيليين وكسب عُتاة اليمين إلى صفّه، ولكنه إزعاجٌ يعرقل سلاسة التحرّكات الأميركية، عالمياً وفي المنطقة، فهو لا يتصرّف بصفته مسؤولاً في دولة تعتمد على التمويل والتسليح الأميركيين، بل يعتقد أن أميركا تحتاج إلى دولته، خصوصاً أنه يستعين بعلاقته الوثيقة باليمين الأميركي.

سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية علنيّة، وعمليات القتل الممنهج ضد الفلسطينيين لا تحدُث في الخفاء

لن يتورّع نتنياهو عن توظيف علاقته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورقة سياسية لإظهار قوته، وإنْ كان لن يقف مع الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فهو لاعب سياسي قد يقلب أوراقاً كثيرة إذا قرّر استثمار يهودية الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وحاجته لدعم إسرائيل في إيجاد دور يلعبه بين روسيا وأوكرانيا، وإنْ كان ذلك ليس موضوعنا الرئيس، لكن أي تحرّكاتٍ يقرّرها نتنياهو مستغلاً علاقاته بوصفه سياسياً مخضرماً يلعب على التناقضات العالمية والداخلية الأميركية، لحرف الأنظار عن حملة "اجتثاث" للمجموعات المقاومة الفلسطينية، وإطلاق المستوطنين لترويع الفلسطينيين، في محاولة لإنهاء حالة النهوض الفلسطيني، فوصول حكومة تُفاخر بيمينيتها وعنصريتها وفاشيتها إلى سدة الحكم، وغياب القناع الحضاري، بخروج يئير ليبيد، لن يغيّر السياسة الأميركية الداعمة لإسرائيل، لكنه سيساهم في توسيع رقعة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وإدانة إسرائيل، وتثبيت صفة نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وبخاصة في أدبيات منظمات حقوق الإنسان العالمية، بل وتبدأ معركة نشر الوعي بأن إسرائيل ليست دولة أبارتهايد، وإنما مشروع كولونيالي إحلالي يجب تسميته والتعامل معه، أي إننا وصلنا في الصراع إلى نقطة مواجهة غير مسبوقة، في معركة نسف الرواية الإسرائيلية، وهذا مهم؛ إذ إن جزءاً من اتجاه المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين وصعود أقصى اليمين في الانتخابات هو نتيجة أزمة النظام الإسرائيلي الذي يواجه مقاومة لا تستطيع قوة ترسانته العسكرية أن تخمدها، أو أن توقف تصاعد الإدانة العالمية التي يعتبرها الإسرائيليون طعناً في شرعيتهم ووجودهم، فالفاشية لا تقوى إلا بالأزمات. وبعد أن كان قادة المستوطنين الأكثر دموية ظاهرة يخجل منها أغلب الإسرائيليين الذين يُنكرون تاريخ النكبة والاستيطان والمجازر التي بُنيت على ضحاياها دولتهم، أصبح هؤلاء قادة يفوزون في الانتخابات وركناً معلناً ورسمياً من أركان النظام الإسرائيلي. فاحتمال دخول المستوطن ايتمار بن غفير الحكومة، يقلق كل أنصار إسرائيل، ليس خشية على الفلسطينيين، وإنما على سمعة إسرائيل، فهذا الذي دعا إلى طرد كل من هو غير يهودي من "أرض إسرائيل"، وتجريد فلسطينيي 1948 من جنسيتهم، هو أوضح تمثيل بدون رتوش للعقلية العنصرية التي رافقت تأسيس إسرائيل، والتي برّرت النكبة والمجازر وهدم أكثر من 700 قرية فلسطينية لإنشاء "وطن لليهود" يحلّ مكان الوطن الفلسطيني والفلسطينيين، وهي تظهر إلى العالم بكل صفاقة وافتخار.

هي لحظة تاريخية، لكن ليس كما يدّعي فريدمان والصهاينة الليبراليون، لأنها لحظة مواجهة مع أنفسهم لا يريدون الاعتراف بها، لكنها أيضاً لحظة خطر على الشعب الفلسطيني، لأن من يخاف فشل مشروع يفقد ما اعتقد أنه شرعية "أخلاقية"، قدّمها الغرب مجاناً، وعلى حساب الفلسطينيين يصبح أكثر وحشية، والتسريبات الأميركية أن إدارة بايدن لن تتعامل مع بن غفير إذا أصبح وزيراً، مشينة، وكأن ذلك يعفيها من استمرار دعم دولة المستوطنين.

إسرائيل كانت ولا تزال مشروعاً استيطانياً إحلالياً، لكن الحكومة المقبلة فيها أسقطت القناع الذي كان يحتمي به "ليبرالي" يؤيد إسرائيل

هي أيضاً لحظة تحفيز لكل حركات مقاطعة إسرائيل ومناهضة التطبيع للتحرّك بقوة، فبالرغم من التطبيع التحالفي الإماراتي الإسرائيلي، وتبنّي بعض الأصوات الإماراتية جزءاً من الرواية الصهيونية، فإن وجه بن غفير وما يمثله يخيفهم، كما عبّر عن ذلك أحد المسؤولين الإماراتيين، مع أن ذلك يثير الاستغراب؛ فسياسات الفصل العنصري الإسرائيلية علنيّة، وعمليات القتل الممنهج ضد الفلسطينيين لا تحدُث في الخفاء، لكن الحرج الأميركي من بن غفير وأتباعه يثير قلق الساسة العرب، سواء المطبّعين علنياً أو في الخفاء.

الوضع محرج لكل الحكومات العربية، ففي آخر عهد نتنياهو، لم يكن هناك أي تواصل بينه والحكومة الأردنية، وكذلك الحال مع السلطة الفلسطينية، وذلك كله يُفسد الحسابات الأميركية التي تخشى من انفجار شعبي في فلسطين، وتصعيد إسرائيل يعوق التطبيع، لكنه ليس محرِجاً لمجموعات المقاومة الفلسطينية، فحالة النهوض الفلسطيني مستمرّة، وهي تحدّي الجميع.

أما بالنسبة لفريدمان وأصدقائه، فغير مقبول التظاهر بالخوف على الشعب الفلسطيني، فمن دافع عن المجازر لا يأبه بالفلسطينيين، بل بصورته شخصياً، فإسرائيل كانت ولا تزال مشروعاً استيطانياً إحلالياً، لكن الحكومة المقبلة فيها أسقطت القناع الذي كان يحتمي به "ليبرالي" يؤيد إسرائيل.

*العربي الجديد

أضف تعليقك