ثغرة السردية الدينية في القضية الفلسطينية
“قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك. ويعني بقوله: "التي كتب الله لكم" التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها”. إنه عمدة المفسرين الشيخ أبو جعفر الطبري يبين معنى ودلالات الآية 21 من سورة المائدة التي تتحدّث عن أمر النبي موسى لقومه دخول الأرض المقدسة التي كان يسكنها العماليق الذين كان يعتبرهم الراحل ياسر عرفات أجداده حيث كان دائماً يقول: “إن فيها قوماً جبارين، نحن شعب الجبارين”، دون أن يلتفت إلى أن هؤلاء “الجبارين” يثبت صحيح الكتاب عدم أحقيتهم في الأرض التي سكنوها لأنها “كُتِبَت” لبني إسرائيل الذين اعتبر نكولهم عن مقاتلة “الجبارين” معصيةً استحقوا التيه جزاءً على ارتكابها.
السردية الدينية المتعلقة بأرض فلسطين تعدّ وبحق خطراً يتهدّد إثبات مشروعية مطالبة الشعب الفلسطيني بأرضه على اختلاف تلك المطالبات سواءً كانت ضمن حدود الرابع من حزيران عام 1967 أو بكامل أرض فلسطين التي احتلت عام 1948. لو أننا رفعنا الأقواس وحذفنا الإشارات المرجعية الدالة على الطبري لاعتبر البعض النص الذي أوردناه إما جزءاًمن التلمود أو رأي شخص خان القضية وباع الوطن!
يتحدث الطبري عن حق اليهود في أرض فلسطين مثبتاً في “اللوح المحفوظ” وليس في مجرد قرار دولي أو اتفاقية سلام ثنائية أو ثلاثية الأطراف، ويزيد على ذلك بأن: “غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر”، متبنياً بذلك ذات اللغة التي يقول العرب والمسلمون أنها تعود لـ”بروتوكولات حكماء صهيون” التي يستخدمها غلاة اليهود في ادعاء حقهم في الأرض العربية من “الفرات إلى النيل” بناءً على “ما كُتِبَ لهم في اللوح المحفوظ”!
لا يخرج ابن كثير بدوره في تفسيره لعين الآية عن هذه السردية فيقول في ذلك: “وقوله تعالى: (التي كتب الله لكم) أي: التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل إنه وراثة من آمن منكم”.
هذه الجرأة من كبار المفسرين في التوصيف وتوظيف الألفاظ الجازمة الجامعة المانعة من مثل: “وراثة... كتبها الله لكم... في اللوح المحفوظ...”، تقوض أي محاججة دينية المنطلق حول إثبات مشروعية أحقية المسلمين في أرض فلسطين، ولا يبقى بعد ذلك سوى الركون لتأويلات هزيلة يرفضها كبار المفسرون أنفسهم لمثل هذه الآيات، حيث يعتمد كثير من أصحاب إثبات الأحقية في الأرض بناءً على السردية الدينية؛ على سردية الأمر الواقع التاريخية التي تتحدث عن”فتح” المسلمين لبيت المقدس ودخوله ثم بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة فيه، الأمر الذي لا ينهض حجةً في معرض التأصيل العقائدي والديني الذي ترد في سياقه آيات سورة المائدة وما يقابلها من رواية العهد القديم التي يحتج بها اليهود، ولو كانت الأمور بهذه البساطة لكان في ما أحدثه غزو المسلمين للأندلس واحتلالها لثمانية قرون وبناء المساجد فيها أساساً وحجةً دينيةً يطالبون بمقتضاها بأحقيتهم في أرض يعترف العالم كله بهويتها الإسبانية، ولكان في احتلال “إسرائيل” لأرض فلسطين أمراً واقعاً يعضد من ادعاءاتها بأحقيتها في الأرض التي احتلتها.
ويوافق الفخر الرازي في تفسيره ما ذهب إليه الطبري وابن كثير مورداً اختلاف الآراء حول حدود الأرض المقدسة وما إذا كانت هي مدينة أريحا أم كامل فلسطين مع أجزاء من أرض الشام... الحاصل أن كبار المفسرين يسلّمون بالسردية التوراتية التي تقول أن الأرض المتنازع عليها اليوم “كُتِبَت في اللوح المحفوظ” لليهود! الأمر الذي دفع ببعض المواقع الألكترونية التابعة لبعض الحركات والمجموعات اليهودية المتطرفة إلى تبني السردية الدينية الإسلامية كما يوردها المفسرون على هذا النحو الفج والجامد.
السؤال المحوري يتركز حول الاستراتيجية الأكثر فعاليةً ونجاعةً للمطالبة بإنهاء الاحتلال واسترداد الأرض المحتلة، هل هي استراتيجية السردية الدينية؟ أم أن التمسك بقرارات الشرعية الدولية وإبراز فجاجة الاحتلال وانتهاكه جوهر حقوق الإنسان كما تعرفها الأمم المتمدنة يعد الأكثر منطقيةً وقوةً وقابليةً للقياس... في عالم غدت فيه حقوق الإنسان عالميةً ومتأصلةً وغير قابلة للتجزئة وغير خاضعة في ثبوتها للسرديات الدينية ولا حتى التاريخية؟
مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني.