تعليم ينحدر بنا صوب الهاوية!
بات التساؤل حول نوعية التعليم في مرحلة ما قبل المدرسة ملحاً وضرورياً، ليس بسبب ضعف التدريس وفقر البيئة التعليمية في غالبية رياض الأطفال الحكومية، وكذلك الخاصة المتواجدة في المناطق الشعبية فحسب، إنما لغياب سلوكيات أساسية يبدو أن الطفل لن يتعلمها ما دام الهدف الرئيس من التعليم، في بلادنا، هو التحكم بسلوكه حتى لا يثير شغباً يصعب السيطرة عليه!
نقاش لابدّ منه مع إطلاق وزارة التربية والتعليم، العام الماضي، حملة وطنية لدعم الطفولة عبر إدخال مرحلة ما قبل المدرسة في السلم التعليمي، في ضوء حرمان 41% من أطفال المملكة من التعلم في رياض الأطفال عاماً أو إثنين قبل التحاقهم بالصف الأول، فما الذي سيتعلمه هؤلاء المحرومون إذا كان هناك 130 ألف طالب أردني لا يجيدون القراءة والكتابة، بما نسبته 22% من مجموع الطلبة، بحسب تصريحات الوزارة نفسها.
يتم إغلاق العديد من رياض الأطفال لمخالفتها شروط الترخيص المتعلقة بمساحات البناء والغرف الصفية وعدم توفر المرافق وشروط السلامة، ناهيك عن انتهاكات تتصل بانخفاض رواتب المعلمات عن الحد الأدنى للأجور وغيرها من حقوق العمل، لكن لا يتنبه صاحب القرار إلى ضرورة إحداث تغيير جذري في التعليم ما قبل المدرسة.
متى سنتوقف عن الخلط بين الحيز الخاص والمجال العام؟ طرْح هذا السؤال ليس ترفاً في مجتمع ينتهك الأفراد فيه خصوصيات بعضهم بعضاً أثناء السير في الشارع أو في وسائل النقل أو في الأسواق.. كيف يمكن تعليم الطفل ألاّ يتدافع بجسده في أي طابور يمشي فيه، وأن يحترم خصوصية الشخص الذي يقف أمامه في البنك والمطار وقبالة موظفٍ في دائرة حكومية أو شباك تذاكر، وأن لا يخترق بنظره أو بلمسة يده أو بأجزاء من جسمه أجساد غيره؟
منذ أن يدخل الطفل المدرسة، أو أي نظام تعليمي قبلها، عليه أن يتعلم كيف يحافط على جسده، وأن يتعرف إلى حدود تعامله الجسدي مع الآخرين، فيحمي نفسه من أي عبث قد يلحق به أو تحرش، ولاحقاً سيتمتع بحرياته وحقوقه مع الالتزام بقواعد الحيز العام، وأن يستوعب الاختلاف وأهمية الحوار بين مختلفيْن، على قاعدة تفهّم الآخر ودوافعه لا من أجل إقناعه بصواب ما تؤمن به من آراء ومعتقدات.
التمييز الباكر والواعي بين الخصوصية الفردية والحيز العام يقود –لا محالة- إلى إدراك طبيعة السلطة، وكيفية مواجهة احتكارها للقرار والثروة والنفوذ، الذي من شأنه تهميش مؤسساتها وتعطيل فاعلية المجتمع؛ أفراداً وهيئات شعبية.
تقنياً؛ يمكن أن تصمم مناهج توضح للطلبة كيفية التعامل مع نظافته الشخصية، ونظافة المحيط، وتوجيه سلوكه الغذائي ونمط لباسه وألعابه وعلاقته مع الناس والأشياء المحيطة به من خلال عرض رسومات أو أشرطة مصورة لعشرات أو مئات المواقف، وتبيان السلوك المطلوب بناؤه لمعايشتها.
يخطر ببالي تطوير هكذا نموذج في تعليم الأطفال حين تراهم يفرضون على أهلهم تناول أطباق غير صحية، من أطعمة جاهزة وخلافه، وحين لا تجد دورة مياه عامة صالحةً للاستخدام البشري في حديقة أو دائرة حكومية أو مدرسة، ولما يتحرش مجموعة شبان بفتاة تمشي في وضح النهار في أحد أرقى أحياء عمّان، التي يُسمع بها أيضاً أصوات أعيرة نارية، وقد تذبح خراف على رصيف ملحمة فيها، ويمكننا أن نعدد مئات السلوكيات التي تهدد أمننا، وإمكانية العيش في دولة مدنية حديثة.
نغيب نحن في المكان، ونتحول إلى مجرد كائنات تتناهش، فعندما تزول الأخلاق التي تعني بالمقام الأول النزاهة والإنصاف واحترام الاختلاف في الرأي والموقف-اعتماداً على التفريق بين الخاص والعام- تعلو المزاودات المزيفة تارة باسم المحافظة على الشرف أو حماية الأوطان أو الدفاع عن الدين، ليخفي المزاودون أنفسهم ما اقترفوه من خطايا، ويمارسون التعمية لمنع تفعيل منظومة تحترم الفرد وإنسانيته وحقوقه كافةً، وهو من شأنه أن يضر بمصالحهم العابرة أو جهلهم المقيم.
أختم مقالي على صوت أطفال في الروضة المجاورة لمنزلي، حيث لا يتعلمون شيئاً باستثناء استماعهم إلى أغانٍ ركيكة المعنى واللحن، إضافة إلى اللعب بلا هدف أو فائدة، فقط لأن دور المدرس والمؤسسة التعليمية ينحصر في التحكم بحشدٍ ما، ولا بأس أن يزعج بصراخه وفوضاه الجيران، على ألا يختل النظام فيفقد قدرته على السيطرة أو جباية الأموال مقابل ضبطه تلك الحشود!
- محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.