كلما تحدثنا عن تطوير التعليم تنتابنا مشاعر من اليأس والإحباط تارة، ومن عدم أخذ الموضوع بجدية تارة أخرى، فقد شهدنا منذ ثلاثة عقود تعاقب عدد من وزراء التربية، وكلما جاء وزير أغرقنا بوعود السمن والعسل، وينطلق مسلسل الحديث عن التطوير للمعلم والمناهج والمدارس، ويتمّ تشكيل لجان ملكية وغير ملكية، ثم تجتمع هذه اللجان وتكتب توصياتها التي هي عبارة عن كلايشيهات جاهزة، وجمل إنشائية، صحيحة التركيب لكنها بلا معنى، ثم ترفع توصياتها إلى الوزير، ليشكّ بدورهل لجاناً لدراسة التوصيات، وتخرج هذه اللجان بتوصيات على التوصيات، ثم تتحطم آمال الوزير وتتغيّر الحكومة ليأتي وزير آخر يبدأ مسلسل التطوير من جديد.
بعد كلّ التوصيات نجد أن المعلم بقي كما كان، من حيث الراتب ومن حيث التأهيل والتدريب، بل ربما شهدنا بعد الحديث عن التطوير وتوصياته تراجعاً في مستوى أدائه، بسبب ضعف مخرجات التعليم العالي أيضاً، ونجد بعد التوصيات كذلك أن ما تم تعديله على المناهج لا يعدو كونه نقل درس من الأول إلى الأخير أو حذف بعض العبارات أو الجمل أو الكلمات، ونجد بعد التوصيات أن المدارس تتهالك بنيتها التحتية وتتهدم جدرانها وأسوارها.
إن الطريقة التي تعامل بها الوزراء - وربما سيتعامل بها الوزير الحالي- لا تخرج عن كونها طرقاً تقليدية مجرّبة، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع، وسوف نبقى في دوامة الوهم التي لا نجد فكاكا من أسرها، وكلما طال الوقت تهاوت أحلامنا، لأن اتساع الرتق سيكون صعباً على الراتق، فالتعليم بحاجة إلى تطوير سريع يتناسب مع متطلبات العالم ومهاراته الحديثة، في التفكير والتحليل والبحث، ولم يعد الوقت مسعفاً لانتظار الحلول التي ستجترحها اللجان الحالمة بعالم مثالي.
يحتاج التطوير إلى أفكار إبداعية جديدة، والمشكلة ليست في نص مكتوب في المنهاج، أو عبارة لا تعجب فئة أو حزباً أو جماعة، بل المشكلة في العملية التعليمية بشكلها المتكامل، أو ما يمكن أن نسميه الثالوث الخطير: المعلم والمنهاج والبيئة التعليمية، وهنا أخرجت الطالب من المشكلة، لأنه من النتائج والمخرجات، وليس من المدخلات، فكل ضعف لدى الطلاب هو نتاج ضعف أحد أركان هذا الثالوث.
ولا بد أن نشير إلى أن أخطر الأركان هو المعلم، لأن المنهاج والبيئة التعليمية محايدان، أما المعلم فهو المؤدلج، بمعنى أنه هو الذي يوجّه كل المحاور الأخرى الداخلة في العملية التعليمية، ولذا يجب النظر إلى المعلم بوصفه الصانع للمستقبل، وتحسين أوضاعه؛ المادية والمعنوبة والتأهيلية، وأن أي حديث عن التطوير دون إشراك المعلم هو نوع من العبث، ولا أعني هنا أن نضع نقيب المعلمين عضواً في لجنة التطوير، على قاعدة ذر الرماد في العيون، بل يجب أن يبدأ التطوير من المعلم، من خلال إشراكه في عملية التطوير إشراكاً حقيقياً لا شكلياً، فإذا لم يقتنع المعلم بالتطوير فلا يمكن أن يحدث، لأن الذي يدخل الصف ويتعامل مع الطلاب 7 ساعات كل يوم هو المعلم، وليس أعضاء اللجان الذين ربما لم يدخلوا غرفة صفية في حياتهم.
التطوير المنشود هو الذي يأتي من الداخل وليس من الخارج، الذي يكون نتاج قناعات العاملين في الميدان من معلمين ومشرفين، وليس بقرارات خارجية يصدرها الوزير، ولا يعرف أحد مغزاها، فكل القرارات التي أصدرها الوزراء على الورق بقيت على الورق، ولم تدخل باب الغرفة الصفية، لأن المعلم غير مقتنع بها، بل ربما يعمل ضدها، فالذي لا يعرفه الحالمون بالتطوير أن أغلب المعلمين وأولياء الأمور يعتقدون أن كل حديث عن التطوير هو إملاءات خارجية، ومؤامرة على الدين والعادات والتقاليد والقيم، فالثقة غير موجودة بكل ما يقال وبكل من يقولون، ولذا فإن كل ما يصدر من قرارات توضع جانبا لأنها ضد ثقافة الناس ودينهم كما يعتقدون.
نحتاج فعلاً إلى أفكار إبداعية ينتجها المعلمون من خلال تأهيلهم وتطويرهم، ليكونوا مقتنعين بها، ولنبدأ التطوير من القاعدة وليس من رأس الهرم، وذلك يحتاج إلى خطة غير مسبوقة يشترك فيها المعلم وولي الأمر، بحيث يكون المنهاج جزءا من ثقافة الناس ومن اشتراكهم وإشراكهم في إنتاجه، وربما يكون من المناسب مثلاً، تقسيم المملكة إلى مناطق تعليمية، حسب المديريات أو ربما أقل، ويكون هناك لجان من المشرفين التربويين والمعلمين وأولياء الأمور، حتى يشعر الجميع أن التطوير حاجة مهمة لمستقبل أبنائهم، وليس مؤامرة عليهم لتخريب أخلاقهم، ولكي يشعر المعلم وولي الأمر أنه مسؤول عن الخطة التي اشترك بها، فيعمل بإخلاص لإنجاحها، وربما يفيدنا ذلك في أن يساهم أولياء الأمور في دعم المدارس والتبرع لها مادياً، إن وثقوا أن ما يقدمونه لأبنائهم هو ما يريدونه لهم، فهناك في القرى والبوادي تنفق ملايين الدنانير تبرعات لبناء المساجد والدواوين، أفلا يمكن أن يوجّه هذا السخاء في العطاء نحو المدارس، إذا أدركنا أنها ستكون في صالح مستقبل أبنائنا؟
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.