تردد أم ضعف؟!
تشير التسريبات إلى أنّ المشاورات الرسمية الحكومية ما تزال مستمرة في أروقة القرار حول تصعيد ردّ الفعل الدبلوماسي الأردني تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة؛ كاستدعاء السفير الأردني في تل أبيب. إلاّ أنّه من الواضح أنّ هناك تأخيراً في اتخاذ مثل هذا القرار، ما يعكس تبايناً وتجاذباً في وجهات النظر، وتردّداً غير مبرر ولا مفهوم!
الرأي العام الأردني ليس ساذجاً ولا حالماً، ولا يتوقع من الحكومة الأردنية أن تعلن الحرب على إسرائيل أو تعيد النظر في اتفاقية السلام، أو حتى تصدر تصريحات متحدّية منسجمة مع الاحتقان الداخلي ضد حكومة بنيامين نتنياهو المتغطرسة؛ بل المطلوب أقل من ذلك بكثير. لكنّ المشكلة تكمن في ضعف الحكومة، وعدم قدرتها على تقدير مستوى الرد المطلوب، والتوقيت المناسب لذلك، ما يجعلنا دبلوماسياً أضعف، وسياسياً وإعلامياً أضعف، ومتأخرين أيضاً!
الغريب أنّ خطوة مثل استدعاء السفير ليست أمراً عظيماً، ولا عملاً عدائياً، بقدر ما تمثّل احتجاجاً دبلوماسياً عادياً تلجأ إليه الحكومات للتعبير عن غضبها وانزعاجها من موقف معين، فكيف عندما يكون عدواناً ظالماً همجياً بحق شعب غزة؟ وكيف، أيضاً، عندما يكون مرتبطاً بقتل أطفال ونساء، وقصف مستشفيات ومدارس ومذابح وجرائم حرب؟ وكيف عندما يرتبط بقضية تعتبر بالنسبة للرأي العام الأردني قضية داخلية ووطنية وحسّاسة؟ وكيف عندما تكون حكومات في أقصى الأرض، مثل بوليفيا والإكوادور وغيرهما، سبقت الحكومة الأردنية إلى ذلك؟!
ذلك على صعيد احتواء ردود الفعل الشعبية تجاه العدوان الإسرائيلي، وهي -كما ذكر رئيس الوزراء نفسه- "معركة داخلية". لكنْ، هل المشكلة تكمن فقط، فعلياً، في إدارة المعركة الداخلية، أم أنّها تتعلّق بجوهر الموقف السياسي الأردني من العدوان؛ أو بعبارة أخرى بالسياسة الخارجية والدور الإقليمي ومستواه واتجاهاته ورهاناته؟ أي هل المطلوب خطوات لاحتواء الرأي العام الداخلي فقط، أم إعادة النظر والتفكير في حجم الدور الإقليمي الأردني، الذي كان يمثّل أحد أهم مصادر القوة الناعمة والموارد الاقتصادية والميزة التنافسية على صعيد الدول العربية؟!
يصرّ سياسيون على أنّ الموقف الأردني متقدّم وواقعي وعقلاني، وهو أهم موقف عربي رسمي؛ سواء تبدّى ذلك في جهود الأردن في مجلس الأمن أو في الدور الإنساني أو حتى جهود غير معلنة للهدنة وتنسيق مع الجانب الفلسطيني (سلطة محمود عباس). لكن المشكلة، وفق هذه النظرة، تتمثل فقط في التسويق الإعلامي، وضعف قدرة الدولة على تقديم روايتها وتتويج مواقفها عبر الرأي العام المحلي والعربي.
في المقابل، تذهب وجهة نظر أخرى إلى أنّ الموقف نفسه شابه قصور وتأخير وتردد، وليس فقط مسألة تسويق؛ إذ يكمن جوهر الخلل، أصلاً، في ارتباط الأردن، حرفيّاً، بموقف الحلفاء العرب، وهو موقف في اتجاهه العام ضعيف ومزعج وملتبس، وعقدته تكمن برهانات نظام السيسي. وهي الرهانات التي عقّدت الموقف العربي أكثر، سواء مع المبادرة أو الربط الدائم ما بين "حماس" وغزة من جهة والصراع الدائر بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين هناك من جهة أخرى، وهو ما جعل هذا الموقف المصري يجرّ معه الموقف العربي، مصراً على عدم تسجيل انتصار لحماس (ومعها قطر وتركيا طبعاً) في هذه المعركة!
مرّة أخرى، المسألة تتجاوز التسويق الإعلامي وإدارة المعركة الداخلية الأردنية، إلى منح السياسة الخارجية والدبلوماسية مساحة مناورة أوسع وأكثر مرونة وتنويع سلّة الخيارات، بما لا يشكل انتقالاً من المربعات التقليدية أو يتجاوز الرهانات الاستراتيجية وإمكانيات وحسابات الدولة هنا، لكن بما يعيد البريق والفعالية والأهمية لنوعية الدور الأردني وطبيعته وخصوصية معادلته الداخلية والخارجية!
الغد