تدخل الإعلام في الشأن الداخلي لدولنا!

تدخل الإعلام في الشأن الداخلي لدولنا!
الرابط المختصر

(1-2)

كنا نتابع معا برنامج "ما وراء الخبر" الذي تبثه فضائية "الجزيرة" القطرية, والذي كان مدار الحديث والنقاش فيه قرار السلطات الكويتية إغلاق مكتب الفضائية في العاصمة الكويتية بعد, أو بدعوى, تدخلها في الشأن الداخلي لدولة الكويت من خلال بثها صورا التقطها مصوروها, ويظهر فيها رجال الأمن ينهالون بالهراوات على نواب من المعارضة كانوا يشاركون في تجمع عام, أو من خلال, على ما جاء في بيان رسمي كويتي, رفض الفضائية الامتثال لطلب السلطات الكويتية أن تمتنع عن استضافة أحد نواب المعارضة (النائب مسلم البراك) للحديث عما حدث.

أحدنا ممن أدمنوا رؤية العالم, على رحبه واتساعه وتعقده, عبر العين الحكومية الضيقة (لضيق المصالح التي يحامي عنها صاحب هذه العين) انهال بهراوة لسانه على "الجزيرة", وصب جام غضبه عليها, محاولا, ببعض الأمثلة, إقامة الدليل على أنها فضائية مغرضة في عملها الإعلامي, محتوى وشكلا, مثيرة للفتن والقلاقل والاضطرابات; والعالم سيكون أجمل لو غادرته إلى السماء!

وانتظرت حتى تبرد رأسه قليلا لأسأله, طالبا منه إجابة صريحة وصادقة, عن رأيه في أن تختفي فضائية الجزيرة من الوجود الإعلامي العربي, فأدهشني إذ أجاب قائلا: "كلا, إني أؤيد بقاءها".

ولقد تذكَّرت, على الفور, صديقا لي (من أهل اليسار في بيروت) كان في النهار يلعن نزار قباني وشعره, فإذا جاء الليل احتضن دواوينه, وشرع يقرأ شعره باستمتاع, فنحن, والحق يقال, بشر قصديريون (نسبة إلى القصدير), مزدوجون إحساسا وتفكيرا.

التدخل في الشأن الداخلي (لدولنا العربية), وهو إثم لو تعلمون عظيم; وإنها لعبارة مستغلقة على الفهم, تمجها الأسماع والعقول, في "القرية العالمية", التي تزف إلينا, يوميا, بشرى موت "السرية (والأسرار)", وترينا "ويكيليكس" بصفة كونه أول الغيث.

أنْ تصنع الحكومة بيديها حدثا سيئا, من وجهة نظر الحقوق والحريات الديمقراطية, فهذا حق سيادي لها, وشأن داخلي, لا يعني, ويجب ألا يعني, أحد غيرنا; أما أنْ يصوَّر الحدث, ويُبث إعلاميا إلى العالم الخارجي, فهذا هو الإثم العظيم.

وربما هذا هو بعض مما عنته دولنا العربية إذ تكلمت كثيرا عن أهمية وضرورة أن ينبع الإصلاح السياسي والديمقراطي من داخلنا, وأن يراعي "الخصوصية العربية", في كل شيء, فالحياة البرلمانية يمكن أن تُشحن بمزيد من القيم والمبادئ الديمقراطية بمفهومها العالمي, على أن يُحفظ للأجهزة الأمنية حقها في ضرب النواب, عملا بمبدأ "مراعاة الخصوصية"!

الانتهاك لم يقع, والإثم لم يُرتكب, عند ضرب الشرطة لنواب من المعارضة, يتمتعون, على ما يُزعم في دساتيرنا, بالحصانة البرلمانية; لقد وقع ذاك, وارتكب هذا, إذ صُوِّر وبُث المشهد إعلاميا, وكأن أمريكا ما كانت موجودة, وما كان ممكنا أن توجد, قبل أن يكتشفها كولومبوس!

على الإعلام, في خطابنا الحكومي العربي, أن يؤدي رسالته بمهنية وموضوعية, بصدق وأمانة واستقامة; لكنه لن يؤديها على هذا النحو, الذي تُجله حكوماتنا, إلا إذا نأى بنفسه عن إثم التدخل في الشأن الداخلي (لدولنا)!

يقولون ذلك, ويريدون لنا أن نقول به, وهم يعلمون أن الإعلام لن يكون إعلاما, ولن يكون إعلاما ديمقراطيا حرا, يتمتع بشرعية القرن الحادي والعشرين, إلا إذا تدخل في الشأن الداخلي لدولنا, وعرف كيف يتدخل, ومارس هذا التدخل بصفة كونه علما وفنا, فإن عدم التدخل يعني إعدام الإعلام!

إنهم يدعون الفضائيات إلى التحلي بفضيلة عدم التدخل في الشأن الداخلي (لدولنا) وهم الذين يفهمون ويمارسون السيادة القومية كذاك الذي كان يجمع الخراف ليذبحها الجزار الداخلي (القومي) فأصبح يجمعها (من الداخل) ليذبحها الجزار الخارجي الأجنبي.

إننا دول لا تملك من أمرها (الداخلي والخارجي) إلا ما يكفي لإثبات وتأكيد أنها آخر من يحق له التحدث عن حرمة وقدسية شأننا الداخلي; وعلى كل معترض أو متشكك أن يزور, ويكثر من زيارة, موقع "ويكيليكس", ليرى حكوماتنا الرشيدة, ودولنا المستقلة ذات السيادة, على حقيقتها العارية من الأوهام والأضاليل الإعلامية والسياسية والإيديولوجية, فإنَّ وزير الدفاع في دولة عربية ينسق أمور الحرب على بلده مع العدو القومي الأول للعرب!

في دهشة واستغراب, سأل الهشيم خصمه الصغير, وهو الشرارة, عن سر قوته, على ضآلة وزنه وحجمه, فأجابه قائلا: أنت الذي فيك يكمن سر قوتي, فلو لم تكن هشيما, ولو احتفظت بشيء من أسباب الأخضر فيك, لانتفت حاجتك إلى هذا السؤال, وإلى ما معه من دهشة واستغراب.

إن حكوماتنا لا تحكم إلا بطرائق وأساليب, يكفي أن تدمن عليها في ممارسة الحكم, أي في صراعها اليومي والدائم من أجل البقاء, حتى تغدو كالهشيم لجهة تأثرها بالرأي الآخر, ولو كان في حجم شرارة; ثم تلوم شرارة انطلقت من هنا أو من هناك, وكأنها ليست المسؤولة عن جعل الرأي الآخر, إذا ما عُبِّر عنه بحرية, كمثل "صندوق باندورا".

العرب اليوم