تأجير العقل

تأجير العقل
الرابط المختصر

لا أعرف إن كانت أول فكرة وُعيت، استأجرت العقل البشري، ومن غير الممكن لي شخصياً، تخيّل اللحظة التي سبقت البداية، فقد ظننت لوقت طويل، أن المسافة المهمة حقاً، والمفقودة فعلاً، هي تلك المسافة التي خاضها الوعي البشري حتى يصل إلى نقطة البداية.

فبعد آلاف السنين على "انوجاد" الإنسان، مازال البشر يؤجرون عقولهم، في تجلٍ لأهم عقد إيجار في تاريخ الوعي البشري، يرنو فيه الإنسان للبحث عن الطمأنينة، فيسعى إلى تقويض كل ما هو مقلق وملموس، لأجل ماهو مُتَيَقَن وغير ملموس، وباستثناء نور الشمس الذي انبثق ليغذي الطبيعة على أرض هذا الكوكب، فإن النار التي انبثقت لأول مرة من بين أصابع الإنسان، استخدمت لاحقاً، من أجل كي بشر آخرين، والتخلص من وباء قلقهم وتساؤلاتهم.

ثقل الوجود، تغذيه الحياة، ويلتهمه الموت ثم يخفيه، وما بينهما، تتمّدد مسافة هي الإنسان، الذي خاض الحروب ليكسب، أو ليعيش! ومن غير الممكن أن نقرأ عن أي حرب، سواء تلك العسكرية، أو تلك التي يمكن أن أسميها "غزوات الاجتماع العام"، من دون الالتفات إلى جذور الإيقان التي زرعها المستأجرُ في عقول الغازين أو المتحاربين أو الضحايا على حد سواء؛ إنها الفكرة، التي تغزو الجسد، وتستأجر العقل، إلى أن تنبني لها مع مرور الزمن، قلعة صلدة على أنقاض عقل الإنسان!

فيظن "العاقل" حينها، أنها ولدت معه، وأنها ماهيته، المشروعة والمفروضة عليه قبل "انوجاده" حتى. ومن هنا، يرى العالم مظلماً، فيمضي في أصقاعه باحثاً عن ثنايا الظلام المطبوع في رأسه، ليخفي قلقه بالموت، ليفني هذا القلق كما يظن، ولن يعرف، بأنه هكذا، يحوّل الكرة الأرضية إلى مقبرة لهذا الكون، مما يجعل العالم، يراه مظلماً أيضاً.

الظلام إذن، هو ما يحاول الموقن فرضه على هذا العالم، لأن فكرته الصلدة، ما من شيء ينيرها، لسببين: أولهما أنها مطبوعة "منقولة كما هي" ولا يمكنه أن يتخيّل وجود فكرة أخرى تنيرها، رغم أن الأفكار لايمكن أن تظل وحدها في هذا العالم، تماماً كما لا يمكن للأرض أن تستنير دون الشمس، أو لا يمكن للحقل أن يعرف أنه أخضر دون أن يصفر، فالعالم بالأصل مؤثث على اختلاف موجوداته وتغيرها أيضاً، ولا يمكن تمزيقه كله لإبقاء مساحة واحدة فقط، تكون على مقاس فكرة واحدة.

ثانيهما: إن لاحظ الاختلاف والتطور أو التغيّر، وإمكانية العقل البشري الطبيعية في خلق علاقات غير موجودة حتى أو غير ملاحظة من قبل، فإن كل هذا، سوف يعد سحراً وكفراً بفكرته الثابتة التي لا تحتاج إلى نظر، إذ إنه يرى العالم من منظار مسلّمته، والتي يعتبرها ضرورة يجب أن تنبع عنها مسلّمات العالم، حيث لايمكن غالباً، أن يرى أن ضرورات الإنسان هي ما يخلق مسلماته، التي تتغير وفقاً لحاجاته أو ضروراته، إذ هو الذي يغيّرها، وليس أن يقوم بتفريغ العالم "تغييره ربما" لأجلها.

ووفقاً للإيقاني، يمكننا تخيّل أن كل بشري، يحتاج كرة أرضية خاصة به!

يفصلها كما يشاء، يؤثثها ببعد واحد أو فكرة واحدة، والأساسي ألا يزاحمه أحد عليها. ورغم أن الإنسان حتى اليوم، يتزاحم على الثروات والماء وعلى تفسير الجنون ويختلف حول المسائل الفلسفية، ويخلق الفكرة ثم يقوضها، فيقتل حداثته ثم يأتي ليقتل ما بعدها، ثم يقتل الفلسفة ويركن إلى العلم، ثم يبشر بعودة الإيمان بعد كل هذا.

إلا إنه ليس بحاجة إلى احتلال الكون، وخلع ظلاميته ونوره عليه، فالكون فيه ما يكفيه من مادة  مظلمة، وفيه ما يكفيه من نور تكسوه الألوان، جل ما يحتاجه الإنسان، تأثيث عقله هو، بالأفكار، أو تركها لتتنوع، لتتزاحم، لتتنور من بعضها البعض، لترفض وتقبل، أو  لتلغي بعضها أو تنبني لتصير معرفة ضمن علاقاتها اللامتناهية.

 يبدو أن الإنسان، يحتاج لغزو ذاته لا لغزو هذا العالم، وأن تبقى عملية السلب والتحرير داخله فقط، حتى ينطوي العقل وحده على صراعاته الفكرية، مما يمنح العالم فرصة جديدة مع العقلانية، ليتسع للبشر، الذين كلما انحسرت ظلاميتهم، تمكنوا من رؤية بعضهم البعض، هذا شيء من النور، لنرى بعضنا أولاً، لا أكثر ولا أقل.

 

عاصف الخالدي: كاتب وباحث من الأردن.