بيتُ الرّيح
اللّيلة، يسهر الناس مودّعين عاماً بقضّه وقضيضه، ليستقبلوا عاماً آخر، نرجو الله أن يحمل لنا صحّة وسلاماً..
يختار بعضهم استقبال العام الجديد في الساحات العامّة، المزيّنة بالأضواء وأشجار الميلاد، وبعضهم الآخر يختار الفنادق، والنوادي، والمطاعم، ويبقى الآخرون في البيت، يسهرون، أو ينامون، أو يقرؤون، أو يتألّمون، أو يموتون.. ما يهمّ هو أنّهم تحت سقف يُظلّهم، لأنّ الذي ليس له بيت هو مشرّد، (Homeless)، وذاتُ المشرّد في حالة خطرٍ دائمٍ، إذ يعني البيت وجود الذات في حدود تمنحها الحماية، وإن لم تجدها فيه فلن يحميها أحد.
يمكن القول إنّ علاقة العربيّ بالبيت علاقة مضطربة، ووجوده في بيته وجود قلق، ويعود هذا القلق إلى ما قبل فكرة العروبة، إلى الحضارات السابقة التي ورثها، إذ أرّق مفهوم البيت (جلجامش) الرافديّ، فقال: “هل بنينا بيتاً يدوم إلى الأبد؟!”، ثمّ استدرك ليربط البيت بالمحبّة، فقال: “هل تبقى البغضاء إلى الأبد؟!”. إنّهما جملتان متناسبتان عكساً، فالبيت يدوم إلى الأبد، حين لا تدوم البغضاء إلى الأبد.
نحَت الأنباط بيوتهم في الحجر، طلباً للديمومة، لكنّها خربت بغزو الرومان، قبل الزلازل، ثمّ جاء العربيّ فبنى بيته من كلمات، تعويضاً نفسيّاً عن بيت الأشياء الذي يسلبه الغزو المستمرّ، أو يهدمه الجفاف. بنى بيت الشعر، وقدّسه، طلباً للأمان المفقود في الصحراء المتراميّة المتوحّشة، وحمى بذلك البيت الشعريّ وجودَه، وعرضه، وقيمه، ومنظومته الجماليّة، فكان بيتاً يحمله، ويحمله الآخرون معه.
سكن العربيّ الخيمة، والخيمة تشير إلى فقدان الثقة بالعالم، لكنّها تعزّز الثقة بالذات، في إمكانيّة العيش كيفما اتفق، فهي قابلة للنشر والطيّ في أيّ مكان آمن، ومرتبطة بالشجاعة، وبالفروسيّة التي هي ضرورة، لا متعة أو حالة جماليّة، كما يحبّ الشوفينيّون رؤيتها، فالعربيّ إمّا قاتل وإمّا مقتول.
تمدّن الناس وسكنوا القرى والمدن، وتركوا الوبر إلى المدَر أي الطين، واستبدل البيت بالخيمة، لكنّ إحساس الخيمة ما يزال يسكننا، فكلّ مرّة نبني بيوتاً، وربّما قصوراً، ونضطرّ للعودة إلى الخيمة، التي لم تعد وبراً، فالأمم المتحدة تصنع الخيام من القطن، أو الألياف، أو البلاستيك.
البيت ثابت في علم الفلك، والكواكب على شرفها، هي التي تغادر بيوتها، بيت الشمس برج الأسد، وبيت القمر برج السرطان..
يقضي المواطن العربيّ عمره يجمّع ثمن بيت، وحين يمتلكه، يكون قد أصيب بأمراض كثيرة مزمنة ولا شفاء منها، ثمّ يتفجّر بيته، بهاون، بصاروخ، ببرميل، بنيران عدوّة أو صديقة، أو بنيران لا يملك تجاهها أيّ موقف، لأنّه أصلاً لا يعرف مصدرها، نيران قادمة من مسرح اللامعقول. ولاشكّ في أنّ هذا ليس المصير الأوحد للبيت، إذ يغادر العربيّ بيته بقوّة السلاح، أو بقوّة النصّ المقدّس، أو الوضعيّ، أو المشوّه. لن يفهم معاناة الفلسطينيّ إلا من أخذ المتطرفون بيته، المتطرّفون دينيّاً، والمتطرّفون قانونيّاً، وأعرف فلسطينيّاً بنى بيته في غزّة أربع مرّات، ليحارب شعور الخيمة.
حينما نحكي عن البيت نصير أقرب إلى الشعراء، لا نؤرّخ له بموضوعيّة على الإطلاق، إنّه موضوع ظاهراتيّ لا يُرى بمعزل عن الذات، كما يشير غاستون باشلار في “جماليّات المكان”، وحينما نحلم بالبيت، فالحلم يكون هناك في بيتنا الأول، بيت طفولتنا، مثلما يكون بلغتنا الأم. وعلى الرغم من أنّنا نبني بيوتاً داخلنا، وأنّ ثمّة بيوتاً لا تغادرنا، فنحن نريد بيتاً من سقف وجدران، وإنّ عبارة: “الوطن بيت” تقرأ على نحو واحد، فماذا يعني أن يكون لك وطن، وليس لك فيه بيت! وبعيداً عن الشعارات فإنّ أيّ مكان لك فيه بيت يعني وطناً.
كلّ موجود من الموجودات له بيت: الجسد بيت الروح، والقلب بيت الأحبّة، والذاكرة بيت الذكريات، والعنكبوت، رغم وهن بيته، له بيت، والله، سبحانه، له ملك السموات والأرض، وله بيت! حينما ذهب عبد المطّلب بن هاشم إلى أبرهة الأشرم، ليطالبه بإبله التي سلبها الجيش، وهو في طريقه لهدم الكعبة، قال له أبرهة: عندما رأيتُك هبتُكَ، ولكن عندما تحدثت زهدتُ فيك.. أتطلب مني إعادة إبلك، وتترك بيتاً تقدّسه أنت وآباؤك؟! أجاب عبد المطّلب: أنا ربّ الإبل، أمّا البيت فله ربّ يحميه! فقال أبرهة ساخراً: لا أظن ذلك. ذهب عبد المطلب إلى الحرم، وأمسك بحلقة الباب المقدس، وهزّها بقوة، وقال باكياً: يا إلهي إنّ عبدك حمى بيته، فاحمِ أنتَ بيتَك! بعدها جاءت الأبابيل..
يودّ الناس لو يموتون في بيوتهم، ويقول الأقلّ تفاؤلاً: بيت الإنسان قبره، فهناك يأمن غوائل الدنيا، وهؤلاء لم يسمعوا بالقبور التي تنبشُ، وتُقصف، وينكّل ببقايا ساكنيها، وهذا حديث قديم مفصّل في كتاب “الإمامة والسياسة” لابن قتيبة، إذ تنبش كلّ ملّة قبور عدوّتها.
لا أعرف إذا ما كان العربيّ سيجرؤ على بناء بيت جديد، أو سيستعيد غريزة الثقة بالعالم، كما تفعل العصافير حينما تهمّ ببناء أعشاشها، ولا أستطيع التنبّؤ بقدرته على بناء بيت من الكلمات أيضاً، سيبقى بيته من ريح، ما لم يتخلّ عن البغضاء والغزو، وإنّ كلّ ما يمكنني فعله اللّيلة، هو أن أرجو للجميع عاماً يقرّون فيه ببيوتهم آمنين.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.