النساء والـميراث: للذكر مثل حظّ الأنثيين: إنصاف أم إحجاف؟
يظلّ الدنوّ من معضلة توزيع التركات والميراث في البلدان الإسلامية مطوّقا بعقبات وعراقيل فكرية وسياسية وعقائدية واجتماعية من جهة، ومثيراً صراعاً جندريا بين الجنسين من جهة ثانية، وهو ما ضاعف من حدّة هذه الـمسألة التي تتشابك فيها ميادين الفقه والجندر والاجتماعيات والتأويليات الثقافية. وقد ترسّخت هالة الحظر لامتناع الاجتهاد أو الاقتراب من مسائل القسمة والـميراث أو الخوض في حيثياتها، ولو من باب المناقشة أو النقد والمحاورة، وليس من باب الدّحض أو الإكراه أو الازدراء، لأن منطلق الـمقاربة أو الإزاحة النقدية للتقاليد التشريعية هو منطلق عقلاني يتموضع حول مـمارسة الحرية في شقّ مسار فكري يحرص على تأمّلات مدنية معاصرة "للأنثى والـميراث" في ضوء فرضيات الإنسانيات ومناهج مقارباتها لرهانات الذات الإنسانية، وما استجدّ منها داخل الحياة الاقتصادية والأخلاقية والسياسية.
إلى جانب حساسية موضوع الـميراث، هناك مسألة أخرى لا تقل حرجا وضيقا، وهي إشكال الأنثوي والنسوي في عالمنا العربي والإسلامي. فبعيدا عن الطوباويات والمتعاليات الخطابية التي لا تعدو أن تكون مجرد شعائر أو مظاهر تلفظية تظهر الديـمقراطية والتمدن من قبل الـمتلفظين، لكنها تبطن سلباً للحقوق واستبدادا للجنس الآخر، وذلك تحت غطاءٍ مشرعن ومقنّن (المجامع الفقهية أو الـمؤسسات القانونية). ما يهمّنا ليست الظواهر الخطابية أو الـمظاهر السّجالية، بل الشؤون الفعلية والاستعمالات الأدائية؛ أي الموضوع في الواقع، أو انتقاله من مجرد "حيل لغوية" إلى ولوج دائرة الفعليّ والـمستعمل؛ أي تداولية تلك المبادئ الشرعية وتطبيقها في حقل الممارسات والثقافات. لكن تحقيق ذلك، يتطلّب جرأة وجسارة وصبرا، لأن الـحراك النسوي العربي يسير بوتيرة بطيئة نظرا للمثبطات التي تعترض سبيله، فغالبا ما يصطدم بجدار القوى المحافظة، تقول في ذلك النسوية الفرنسية لوس إريغاراي (Luce Irigaray): "إن البناء الـمتمهّل لهوية النساء مع كلّ الوساطات القانونية والثقافية التي يتطلّبها ما زال بحاجة إلى الجهد؛ بالنسبة إلينا نحن الغربيات الشابات تقريباً كما بالنسبة إلى النساء المنتميات إلى ثقافات أخرى مختلفة. تجدر الإشارة إلى أن أولئك النساء لا يتمتّعن بالحرية وليس لديهن حق الكلام مثلنا؛ فنحن والنساء الأخريات بأمسّ الحاجة إلى أكثرية نسائية مدنية، ذلك يعني الاعتراف والـمساعدة للطائفة الـمدنية التي تـمنحنا الحقوق والـمسؤوليات داخل العلاقات الثنائية والعائلات وأيضا داخل العلاقات العامة".[2]
لم تحقق الـنساء العربيات بعد تلك القفزة المدنية، نظرا لأن أغلبيتهن في وضع ارتكاسي ساهمت في تشكيله دوائر متعدّدة: السياسية منها والقانونية والثقافية والتمثلات الدينية الـمزدرية للمرأة، شئنا ذلك أم أبينا؛ لأن مظاهر التخلف نتجت عن تراكمات وترسبات اجتماعية وثقافية لا واعية، يحكمها منطق ذكوري متسلّط، يستبدّ بالرموز والأشكال والخطابات والصّور ويشحنها ثقافيا وشعائريا ويبالغ في توظيف النصوص المقدسة لصالح منطقه الاستعبادي، فهذه التمثلات الراديكالية المتجذرة "تدفع مجتمع الرجال إلى إيجاد أنظمة شرعية تعمل على إخفاء العنف المفتوح أو الضمني، الجسدي أو البنيوي الذي يمارسه الرجال ضدّ النساء والرّاشدون ضدّ الأطفال والرّجال "الأحرار" ضدّ العبيد، والأغنياء ضدّ الفقراء ورجال الدين ضدّ "الأميين" و"مرشدو القداسة" ضدّ "الـمؤمنين".[3]
النسوية وأزمة الـميراث في الإسلام: عودة جديدة
بين جدليتي "التابع والـمتبوع" أو "الاعتراف" الهيجيلية، تتفجّر في أيّامنا قضية الـميراث في الإسلام من جديد، لنلطفّ هذه الصياغة قليلاً ونقرّبها إلى حقل الواقع، هي عودة لـمسألة "اللامساواة واللاعدل" في توزيع التركة بين الذكر والأنثى، ولن أخوض في هذه القضية من باب التفسيرات والتأويلات الدينية الطوباوية التي لا أريد مجاراتها، ولا الولوج في تفاصيل فيلولوجية أو لسانية يطول شرحها وتستهلك زمنا وبحثا أعمق، وأظن أن لها أهلها في اللسانيات والدلاليات. أرى أنّ التفسيرات التقليدية التي تعود إلى زمن القرون الوسطى، تمثل الـمحرك الأوّل الذي يشحن تمثلاتنا المعاصرة، وتتحكّم في أهوائنا وعقولنا، التي تظلّ قاصرة عن فهم النص القرآني فهما مستقيما، "وبالتالي، فإن العوامل النفسية والاجتماعية العميقة ورهانات المعنى والسّلطة الملتزمة في تلك الخطابات لم يتم الكشف عنها، كما أنها تعتبر أقل مستوى من خطاب أيديولوجي ضمني غير خاضع للنقد، ومن مجموعة تحقيقات حول الإسلام الأصولي".[4]
لذلك ظلّ الاجتهاد في قواعد الـميراث في الإسلام أمراً لا يقبل التفكيك أو النقد أو الدّحض عملا بقول الله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا] (الأحزاب: 36). فإغلاق باب التقصي والتحقيق أو التعديل بما يناسب متغيرات الزمن وأشكال الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ترك المرأة في وضعية تتخبّط في ظلم أبويّ وإقطاعية طبقية؛ أي تحت هيمنة بطريركية مطلقة لا تقبل النقاش (الإله، السلطان، الفقيه، الرّجل). يقول محمد أركون: "الـمسلمون الحاليون يرفضون بأغلبيتهم إخضاع ما يُسمّى بالقانون الديني (الشريعة) إلى النقد التاريخي والأنثروبولوجي الذي يسمح بنزع صفة التقديس والتجاوز عن كل الـمعايير والاعتقادات التي نلجأ إليها بانتظام بإبقاء النساء ضمن الأوضاع القانونية الـمحدّدة تعسفيا والـمتشكّلة في العصر الوسيط".[5]
لكن اليوم، تتعالى أصوات مطالبة بالمساواة في الميراث، سواء في تونس أو المغرب، حيث تعد تونس السّباقة عربيا لاستحضار هذه المبادرة التي ألهبت المشهد الثقافي والحقوقي والديني العربي، خاصة بعد تصريحات الرئيس التونسي الحالي التي تُبدي رغبته في استصلاح قواعد الـميراث وإعادة النظر في المساواة، بين الرجل والـمرأة بخصوص مسألتي الحقوق والتركات. هذا ما فجَّر حربا كلامية بين المحافظين والمثقفين المتنورين حول المعارضة والموافقة، عبر هذا المقال سنضرب أمثلة ومواقف لمن سعين إلى إسماع صوتهن في ظلّ تـمثّلات الفقهاء الذكورية التي غضت الطرف عن المغزى العقلي للآية، تقول ألفة يوسف: "أليس كلّ ما يفعله الله تعالى مستندا إلى حكمة؟ وأليس القرآن كلام الله تعالى من تجليات هذه الحكمة؟ فلماذا لا نتعامل مع سكوت الله عز وجلّ عن حظّ الأنثيين، باعتباره حكمة من حكمه نحاول تأويلها واعين بأنه ما يعلم تأويلها إلا الله".[6]
لا توجد قيم منسوبة إلى الرّجال وأخرى إلى النساء فيما يخص التدابير السياسية أو الاقتصادية؛ فرغم الاختلافات البيولوجية بين الجنسين إلا أنهما يحملان جوهرا واحدا يشتركان فيه
أليس حصول الذكر على تركة والده كاملة، مقارنة بحصول الأنثى على نصيب معلوم يُشاركها فيه أهل الهالك - إذا لم يكن لهذا الأخير بنينا- يـمثل استحواذا وهيمنة؟ يدافع هذا الاستحواذ بشكل علني عن تحيز أو تـمركز قضيبي دفين لإمبريالية ذكورية مهيمنة لا تقبع النقاش بحكم ذريعة وجود نصوص مقدّسة استُعمِلت مرارا وتكرارا لتكون المعيار الذي يُؤخذ به في توزيع المواريث كما يبدو في الآية الكريمة [يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ] (النساء: 11).
يقول أركون في هذا الصّدد: "إن أيّ معيار قانوني تأسس بناء على نص واضح في القرآن لا يمكن لأي مشرع إنساني أن يعيد النظر فيه أو يلغيه. تنطبق تلك الحالة على ما نسميه بالمكانة الشخصية، وحق الأشخاص (الإرث، الزواج، الطلاق، التبني، الدائرة الخاصة، الدائرة العامة). كل هذه الأمور تبقى غير خاضعة للنقد في الدول الإسلامية"[7]. طبعا هذا الحدث يعكس صراعا سياسيا يستثمر النص الـمقدس لتقوية شوكته وتشييد منغلق دوغمائي لا يقبل أية محاولة للاجتهاد. إن الـمسألة تتعدّى الجدل الفكري إلى جدل سياسي بين أفراد يدافعون عن حق الـمساواة في الميراث، وبين أغلبية ساحقة رافضة له (ممثلة في فقهاء البلاط والإسلاميين الـمحافظين)، كيف ستؤول النتائج؟ نتذكر السيدة أسماء الـمرابط التي دعت إلى توافقات وإصلاحات لقضية الميراث في الإسلام، فكيف أُجبرت على الاستقالة من منصبها، وتكتّلت ضدّها جبهات متصلّبة عقلانيا متمركزة فقهيا ومتركّزة ذكورياً؛ حيث واجهت حملة شرسة لدعوتها التّشجيعية إلى فتح الإسلام على قضايا العصر. فجرأتها البحثية تمثل حدثاً أو رسالة تثير فيها موضع الـمظالم التي تعاني منها الـنساء واقتراح حلول معقولة لعلاجها.
إذن هي بوادر مدنية لإعادة النظر في مسألة النساء والـميراث؛ إذ كلّما تـم تحريك مياه هذه البركة العكرة، اتّخذ المحافظون من الإسلاميين ردّات عنيفة وهجوما مضادّا، بحكم الخروج عن الرأي العام المحافظ، إذ يرون في مطالبات الـمساواة غريبة وشاذّة ومعادية للدّين، كما لا يحق الـمساس بالهيكل العام الثابت، وينظرون إلى التغيير لعبةً ديـمقراطية خطيرة، يجب إيقافها أو تأجيل النّظر فيها وإرجاء فتح سجّلاتها إلى تاريخ آخر غير حاسم وغير معلن عنه، ألا يـمثل هذا خوفا من مواجهة النساء ومطالبهن؟ ألا يـمثل نظام الـميراث الــمعمول به إجحافا علنيا في انتقاص الـمرأة وهضم حقوقها؟ ولـماذا يُنظر للمرأة مجرد نصف آخر ناقص عن الرّجل الكامل (النموذج المثالي والـمتعالي)، ويُنظر للـذكر على أنه "أكمل حالا من الـمرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضا شهادة الـمرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الإنعام عليه أزيد، ثم إن الـمرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد"[8]. ألهذا، تمّ حجب صوتهن؟ ولا يزال ذلك الحجب مستمراً طبعاً!
الـميراث بين قداسة النص وثورة النساء
إذا استندنا إلى النظرية النسوية كما شهدتها ما بعد الحداثة فلسفةً مغايرة لفهم الذات الإنسانية، التي أقصاها تاريخ الأنساق والقوانين الرمزية، وحُجب فيها دور الأنثوي، تُصبح مطالبات الـمرأة بالعدل في الإرث أمرا لا يدعو إلى تمرد أو عصيان، بقدر ما يمثل نقاشا عقلانيا ومتساويا وعودة حفرية تبين كيف أن الوضع تغير ماديا واجتماعيا وثقافيا، ألا يحق المطالبة بتلك الإزاحات إذن؟ التي لن تفسد للودّ قضية، مادامت النسوة طالبن بالعدل فقط، وليس بنصيب الذّكرين! لكن الفكر الدّيني لا يزال من خلال مستعمليه وتجّاره جامدا يخاف من أن يفقد هالته ورأسماله الرّمزي الذي أصّل له بالقوة والسيف والسّلطان، ليخيف الرعية ويُصيبها بالرّهاب، اليوم نحن "بحاجة لباحثين مستقلين بعد أن كان طيلة قرون عديدة، إمّا حِكرًا على سدنته وخدامه الـمُتحمِّسين (رجال الدّين)، وإما دريئة للمجادلين الذين يستهدفون غايات أخرى"[9]، كما ذهب إلى ذلك الـمفكر الإسلامي محمد أركون بجرأة وشجاعة.
فكلّما فُتح المجال للاجتهاد أرهبوهم بقداسة "النص" الديني (قرآنا كريماً كان أو سنة نبوية شريفة)؛ تلك القداسة الأزلية التي لا غبار عليها ولا نقاش فيها، لكن القداسة "الإنجازية" التي يُتشدّق بها هي قداسة نصف بشرية ونصف إلهية، ما دام النص إلهيا، فتوظيفه الثقافي ونشاطه التأويلي بشري محض، ذكوري في صميمه، دكتاتوري في مواقفه، مجحف في أفقه، ظالم في غاياته، قاهر ومتعنّت يحمي السلطة الذكورية، ولا يقبل شيئا خارج سيطرتها. هذا من جهة ومن جهة ثانية، يحمل الإرث في حد ذاته تضاربات وصراعات، لأنه يوسع من خرائطية النّسب فتتداخل الـمشاكل وتتفرع، طبعا جاءت الآيات القرآنية لتفصل في ما هو أصلح وأنفع للمجتمع الجاهلي وخلق تشريعات دينية تنظمه؛ أي النص المقدس كشفرة لأجل التدبير والتبادل الاقتصاديين.
يمكن القول إن النقاش في مسائل عويصة تتقاطع فيها الهوية النسوية والتراث الإسلامي تبدو خطوة خطيرة ولكن جريئة، خطورة يلفّها الهلع اللاّواعي للمسلمين من الـمساس بقداسة النص الرباني، وكأنه دَيْن أو طاعة ممتنة كما يُسمّيها محمد أركون الذي يقول: "إن طاعة الله ورسوله تمثل نداء ملحا ومتكررا يخترق الخطاب القرآني من أوله إلى آخره".[10]
طبعا لن يقول مؤمن عكس ذلك، لكن المطلوب إعادة النظر في حدود الله، في تلك الآية )لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[. قد يقول لك قائل لا تتعد حدود الله، ولكن يجب فهم تلك الحدود الثابتة في شكل متعدّد الأبعاد متحوّل الزمن متقاطع الغايات والأهداف الكونية والإنسانية. "مقتنعين بأننا لا نملك القول الفصل، ولكن في الآن نفسه مقرّين بأن الله عز وجل لا يمكن أن يصمت عن حظ الأنثيين عبثا أو اعتباطا. أليس في ذلك دعوة إلى إعمال النظر والفكر والتأمل؟ ألم يقرر ابن العربي أن الله سبحانه وتعالى لو كان مبينا حال البنتين بيانه لحال الواحدة، وما فوق البنتين لكان ذلك قاطعا، ولكنه ساق الأمر مساق الإشكال لتتبين درجة العالمين وترتفع منزلة الـمجتهدين".[11]
يجب تغيير تلك الحدود وأشكلتها، بإعادة النظر فيها لغويا ودلاليا وثقافيا، لأن الأنماط اللسانية معجميا وتركيبيا تتصل في الأذهان بصورة دلالية وثقافية مشوّهة/غير مكتملة مثيلة لأنفسنا الـمشوّهة الـمصابة بأعطال روحية وأمراض مزمنة كالجهل والعنف واللاتسامح. وبالتالي علينا استصلاح تلك الذات وتربيتها إنسيا (البعد الأفقي) لننطلق في فهم خطابات أخرى متعالية عقليا ومتصلة روحيا (البعد العمودي)، حينها يمكن الخوض في هذه الـمسائل بتروّ وتدبّر وعقلانية.
الرهان الآن يتبدّى في كيفية الـمطالبة بالتعايش بين النصوص الإسلامية وحقوق المرأة الـمدنية ومطالباتها النسوية؟ نحن نبحث عن خطاب وممارسة تعزز من العدالة الاجتماعية كما نفهمها ونقبلها ونرتضيها اليوم للمرأة في هيئة إسلامية قويمة لتحقيق التوازن بين متطلّعاتنا المدنية وتحديث تشريعاتنا الدينية، والجرأة على فضح التشويهات التي طالت الدين الإسلامي الـمتسامح؛ بل ازدراء للتفسيرات الأبوية القروسطية التي تشبّثت بتلك الـهرمية والمركزية القضيبية الباغضة للنساء. وليس في الـميراث وحده ولكن في قطاعات أخرى تمسّ الأنثوي (الطاعة، العمل، الحجاب، الجنسانية...)، ولكن باسم الإسلام والبطريركية التي تطبقها عديد الدول العربية، وهو ما يجعل النساء اليوم أمام ممارسات وقوانين جائرة تجعلها بشكل واع أو غير واع مواطناً من الدرجة الثانية (مخصيا ومحذوف التاء!).
نسوية بـملامح إسلامية: رهانات وتقاطعات
عزّزت كلّ هذه التراكمات للـممارسات التاريخية والسياسية والاقتصادية التي بثّها الجهاز الأبويّ الإسلامي، من مهانة المرأة والإنسان عبر الأجيال، علماً أننا "عندما نتكلم عن وضع الـمرأة في الإسلام يغيب عن بالنا بأن هذا الدين قد أكّد ببساطة وطوّر أحيانا الأوضاع الـموجودة قبلا في نطاق مفهوم الـتحرّر".[12] وعليه فــ "أمة اقرأ" عليها فتح أبواب السجال والاجتهاد والعقلنة التي أوصدها الفقهاء وعرضِها من جديد أمام الفتوحات المعرفية في الإنسانيات الجديدة (الأنثروبولوجيا، الهيرمينوطيقا، دراسات الجندر) وإعادة نقد تلك التصورات الـمنبعثة والـممتدة من شروحات القرون الوسطى (التفسيرات والاشتغالات الفقهية)، والتي لا تخدم حياتنا ومـمارساتنا الحالية. نحن بحاجة إلى مـمارسة ثقافية مختلفة ومتابَعة يقظة للتشكيل الإسلامي ونـموّ الوعي الجمعي وتحوّلاته بما يتماشى مع الخط التتابعي لسيرورة الحضارة والتاريخ وتغير الأنساق الاقتصادية والتنظيمات السياسية والتشريعات القانونية. لكن للأسف أُجبرت النساء على الانصياع -كل تلك الفترة الـمديدة- للأنساق التشريعية التي خُلقت لتدافع عن حقوق الإنسان (رجلا كان أو امرأة)، وكما يرى أهل علم النفس من يُجبر على الانصياع، يكون غير راضٍ وهذا يقود إلى التمرّد. وبالتالي، فتحت الـمرأة المسلمة صراعا وتحدّيا في وجه السلطة الذكورية الأخطبوطية العاتية التي تهيمن على عديد القطاعات البشرية الحيوية (التربية، الثقافة، السياسة، الاقتصاد) باسم قداسة التّشريع الإلهي. النسوية الإسلامية لن تتهرب من الدّين كما يبدو للبعض ولن تتعدّ حدود الله كما يقول البعض الآخر، بل ستقفز فوق كل تلك السياجات التي تـمادت في معماريتها الذكورية، وأفرطت فيها إلى حدّ إهانة الـمرأة واستغلالها.
لذلك، وعندما نتحدّث عن نسوية إسلامية، فهي ليست مطالبة فقط بتحقيق تكافؤ في الـميراث أو تطبيق للمساواة بين الجنسين، تُـجنى ثمارها بعد ثورات هادئة أو دموية، بل هي نضال يسعى إلى فتح تحقيقات عميقة في كل تلك الـممارسات التعسفية التي تقيمها السلطات الفقهية. لكن لـماذا رضخت الـنساء قديـما أو حديثا وإلى يومنا تحت النسقية السياسية، وأصبحن "جاهزات كي يقمن من جديد بالأدوار التقليدية التي تحدّدها سلطة الرجال أو السلطة البطريركية"[13]. لماذا رضين بالصمت أمام قسمة غير عادلة، قسمة بشرية تتلبس بأقنعة إلهية للـميراث الشّرعي التي ارتضاها الفقهاء والرجال؟ وكيف تحوّل ذلك إلى تكييفات اجتماعية وثقافية وتاريخية عريقة تصب في مصلحة الذكور؟ أطرح فكرة أخرى، وهي أن الحركة النسوية تبحث كذلك عن مواقف أخرى داخل النص الديني، أكثر حميمية وقرابة إلى هويتهن الأنثوية، فالنسوية ليست بحاجة إلى دحض أو دعم، وبالتالي تشكيل ثقافة بورجوازية أو تكتل طبقي له غايات سياسية خالصة، وهو ما علينا إدراكه جيدا. دعوة النسويات لا تبحث عن قراءة بشرية خاضعة لأي منظور، نسويا كان أم ذكوريا، بل ترصد قراءة في سياق ثقافي وتاريخي في فهم لأسباب النزول وحيثياتها الاجتماعية والسياسية خاصة، وأحيانا "لا يمكن دراسة مرحلة فكرية ما إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار وضع اللغة وطريقة التعبير السائدة آنذاك".[14] وذلك لكسر هاجس القراءة الحرفية والضخامة الذاتية التي تحرّر المسلمين من عقدة الجنس الأول أو الجنس الثاني، وتعزز رسالتهم الكونية التي جاءت لأجلها إنسانوية القرآن [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13). ولا يتأتى ذلك إلا باستعادة مبدأ الـمساواة بين الجنسين لتشكيل مفهوم الإنسان الكوني أو النفس الواحدة التي تحدث عنها القرآن الكريم [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا] (الأعراف: 189). وبالتالي لا توجد قيم منسوبة إلى الرّجال وأخرى إلى النساء فيما يخص التدابير السياسية أو الاقتصادية؛ فرغم الاختلافات البيولوجية بين الجنسين إلا أنهما يحملان جوهرا واحدا يشتركان فيه. هنا علينا العودة إلى عديد السور التي تطرقت إلى الإنصاف الموجود في القرآن بين الجنسين في علاقتهما بالله (من حيث الجزاء والعقاب)، مثلا في قول جلّ ثناؤه: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ] (آل عمران: 195) أو قوله تعالى: [وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] (النساء: 124). إذا كانت المساواة والإنصاف بين الذكر والأنثى في العقاب أو الثواب، فلماذا لا يكون الإنصاف أيضا في توزيع الثروات؟ من هنا علينا العودة إلى مفهوم الإنصاف؛ أي تقسيم شيء إلى نصفين متساويين، وتدبّر الآيات القرآنية التي تؤيّد الـمساواة بين الجنسين والدّفاع عن تطبيق أحكام عادلة في إطار حياة مدنية وقانونية تحكمها العلاقات بشكل شفّاف غير خاضع للهيمنة أو الحجز أو التبعية، وهو ما لا يعكسه واقع الحياة الشخصية للأفراد، الذي يحتكره كون ذكوري اجتماعي وسياسي يرتدي عباءة الإسلام الثقافي ليمنح للذكور (العلماء، الفقهاء، الساسة) فرصة التلاعب بالتشريع من أجل تفوّق جندري وسحق لآخر.
للذكر مثل حظّ الأنثيين: إنصاف أم إحجاف؟
السؤال الذي يُطرح: لـماذا ارتبط سؤال التحرّر من الهيمنة البطريركة بالنسويات والناشطات الحقوقيات والكاتبات دون غيرهن من الذكور؟ أليس من حق "الذكر" أيضا إنصاف شقّه الآخر: "الـمرأة" بما تحمله كلمة "شقائق" من إنصاف وتلاحم معه؟ أم أنّ خطابات الاستثناء (الـميراث أو الشهادة) أنسته أنهن "شقائق الرّجال" ومثيلاته، خطاب الـمضاعفة هذا )حظ الأنثيين) غذّى نرجسية الرجال وفخّم ذكوريتهم، وعظّم من شأنهم ورمز فحولتهم الـمتوهمّة؟ ألا تخفي جميع هذه الـتمثّلات الاجتماعية الـمتحجّرة والثقافية الساكنة "إنسانية الإنسان" وتحجبها عند التمييز بين الذكور والإناث؟ نحن –نساءً ورجالاً- بحاجة إلى تحرير الإنسان الذي بداخلنا، تحريره من عُقدنا ومخاوفنا وارتياباتنا ونفاقنا وتشويهنا للدّين الإسلامي الذي نظر لأحوال الفرد بكونية وإنسانوية متفرّدة إتيقيا، علينا العودة أركيولوجياً إلى قراءة التراث الإسلامي بكلّ ما يحمله في ثناياه وطياته وجزره المجهولة من مواقف وآراء واجتهادات تمّ بترها ليُحتفظ فقط بتلك الصورة الذكورية للإنسان. نحن في طريق البحث عن الشقّ الضّائع للصورة (النساء)، على الإنسان مواجهة ذاته واحترام اختلافاته لتستقيم ديانته التي تراعي الأبعاد البشرية والآفاق الربانية.
تظل الأمثلة الواقعية والممارسات اليومية في تدابير الـميراث كثيرة ومفجعة في حق النساء، مادامت السلطة الفقهية تقمعهن بصريح العبارة، بينما "أشار بعض الـمفسرين إلى سكوت الله تعالى عن حظ الذكر إذا كان للمتوفّى ولد ذكر واحد. وتساءلوا هل يرث هذا الذكر المال كله مثلما يذهب إلى ذلك إجماع الأمة أم يرث حظ الأنثيين الذي حدده إجماعهم ذاته مدعيا الاستناد إلى النص؛ أي يرث الثلثين فحسب. لا نتعجب أن نجد الـمجتمع الذكوري يقر الإمكان الأول أي وراثة الذكر الواحد للمال كله، ولا نتعجب إذ نجد الـمفسرين يؤولون أن يوصيكم الله في أولادكم، إنما المراد منه"[15]. هنا تتعدّد التلاعبات وتكثر التأويلات التي تصبّ كلها في مصلحة الجنس الذكوري.
ما تم تداوله في خطاباتنا الفقهية هي تلك الرؤية الدّونية للمرأة كما وردت في سفر التكوين في الكتاب المقدس، وهو غير موجود في القرآن الذي أنصف الـمرأة كإنسان
لكن ألا يحق للنساء المطالبة بحقوقهن وصيانتها دينيا ومدنيا وقانونيا؟ الكل يعرف أن الآية الكريمة لها وجه آخر وسياق مختلف، جاء لحماية الأرامل واليتامى، من أجل إشراك رجال العائلة لكفالتهم والعناية بهم، وذلك يتطلب نصيبا مضاعفا من الـمال للذكر لتدبير أمور الأرملة واليتامى من عائلته، أما في يومنا هذا فالـموازين لم تعد كما كانت. تقول ألفة يوسف بكثير من الفطنة والنباهة النقدية: "إن أي اجتهاد في مجال الـمواريث لا بد أن يضع نصب عينيه أن المجتمع الجاهلي لم يكن يورّث الـمرأة ولا الطفل. ويجب ألا ننسى أن المجتمع الإسلامي الأوّل كان يسير وفق نفس القاعدة الاجتماعية التاريخية التي تقصر الميراث على من يلاقي العدو ويقاتل في الحروب. كما أنه يحب ألا ننسى أن بعض المسلمين انزعجوا أيما انزعاج من إسناد الله تعالى نصيبا من الـميراث للنساء، فهؤلاء وهم المسلمون الأوائل الذين يقدّمهم لنا البعض اليوم في صورة مثالية يطيعون دون تلكأ وينفّذون دون نقاش-لم يقبلوا أوامر الله تعالى بتوريث النساء إلاّ على مضض".[16]
فالوقوف في وجه أي مطالب بالتسوية بين الجنسين في الميراث، وتوظيف الحجج الدينية لتخويف الناس وقمعهم والحديث عن غضب الله الذي لا يُدرك كنهه من يتشدق به، يُعدّ ممارسات تعود بنا للكهنوتية والقروسطية الـمظلمة. لذلك، ظهرت "معركة النساء" ضدّ تلك الحجج المقدّسة التي ما يفتأ المجتمع الأبويّ عرضها على المجادلين لإعجازهم وترهيبهم، وهي مجرد خطاب يـمزج بين الدنيوي والأخروي، مبطنّ ومنحاز ذكوريا لحماية مصالحه، تخويفاً للرّعية أو من باب إسداء النّصح لهم بعدم التمرد عما قاله الله وشرّعته سنة نبيه الـمصطفى، ولكنه يظلّ تكريساً لخطاب بشري متغطرس يتمرغ في وحل اللامساواة والمرضية الجنسية (الذكورية الـمتوهّمة). وهنا نتذكر تراجيديا الدكتورة أسماء المرابط مع المحافظين، الذين مارسوا ضغطا عليها لتقديم استقالتها، فليس ذلك هو الحلّ! الطريق لن يظل مسدودا في ضوء انفتاح فكري شرس ومطالبة بالمساواة في الحقل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بل النص الديني في حاجة إلى تأويل وقراءة واستثمار.
وهو مطلب الحركة النسوية في المغرب أو تونس، وهي الإقدام بشجاعة وصرامة على إزالة الجليد عن تلك القضية الحسّاسة في الفقه الكلاسيكي. فصوت الـمرابط مثلا لا يُشكّك في النصوص المقدسة ولا في الإيمان بها، كما التفتُ إلى ذلك، ولكن صوتها هو دعوة إلى تغيير طريقة النظر التي تملي علينا الدّفاع عن حقوق المرأة المهضومة أو النهوض بقضية المرأة في ظلّ التشريعات الدينية البائسة في حقها. لذلك تمثل النسوية الإسلامية (féminisme islamiste) نزعة تحرّرية ولكنها محافظة على الإطار الديني الذي يلفّها، وبالتالي لا تمثل قدحا في النص المقدس، بل إعادة نظر سياسية وتاريخية لخطابات التشريع.
خاتـمة
تشقّ النسوية الإسلامية طريقا جديدا ثالثا بين الإسلام المحافظ الصّارم ونماذج التحرّر عن أنماط التمركزات العقلية أو القضيبية، وذلك لـمسايرة حراك جديد توفيقي يحافظ على حقوق الـمرأة الـمدنية الـمعاصرة في ظلّ الـمدنيات والقوانين الجديدة. هو حضور نسوي إسلامي يؤكّد مرة أخرى على مدى الانسجام والتناغم بينهما، بعيدا عن أجواء التصلّبات التقليدية أو الثورات العلمانية الجديدة؛ أي السعي لابتكار نسوية جديدة تناضل وتقاوم أي شكل من أشكال السيطرة الاستعمارية أو القمع الأبوي التقليدي دون أن تنأى بنفسها عن الدين؛ أي تمارس حريتها بعيدا عن الفشل العلماني أو التقليدي، وهو ما يدفعنا إلى إعادة قراءة الخطابات التراثية حول الـمرأة من خلال المصادر الفقهية الأولى: القرآن والسنة، بعيدا عن التفسيرات المغلوطة والمشوّشة والمتضاربة عقليا ولغويا أحيانا كثيرة، وبالتالي هي دعوة للتعمق داخل الجوهر الرّوحي للقرآن، فمن الواجب الكشف عن حجم الطمس الثقافي لحق المساواة بين الجنسين الذي ورد في إطار التشاورية والتشاركية السياسية والاجتماعية والإنصاف في التركة. ما تم تداوله في خطاباتنا الفقهية هي تلك الرؤية الدّونية للمرأة كما وردت في سفر التكوين في الكتاب المقدس، وهو غير موجود في القرآن الذي أنصف الـمرأة كإنسان، ولم ينظر إليها بذلك الحسّ الهامشي مثلما هو ملتصق بها في التمثّلات الاجتماعية من نقص وعار وإغراء وشيطنة...
والباب الآخر الذي يجب طرحه بقوّة أكثر من أي وقت مضى هو: لـماذا لا نجعل النصوص الـمقدّسة تتكيّف مع كلّ العصور، لفكّ خلافاتنا وجعلها طيّعة وعقلانية أكثر باقتراح قوانين تتوافق مع التوازن والعدل في توزيع التركة في تكامل تام مع النصوص المقدسة؟ وبالتالي إعادة تدبير المال بين الجنسين بما يكون مناسبا. الاجتهاد في تلك القضايا، عليه أن يكون عقلانيا وليس مستندا إلى منطق الشبهة أو الـحرام؛ أي "حرمة الاجتهاد في ما شرّعه الله". لكن هل يمكن الحديث فعلا عن آراء موضوعية إنسيا تستند إلى القرآن؟ هنا علينا إعادة التنصل من الـمصالح الشخصية والسياسية والاقتصادية للذكورية، نحن بحاجة لقراءة نقدية حرة وموضوعية وهادئة، حتى لا تكون هذه القراءات الجندرية الجديدة حول الميراث محلّ سخط واحتجاج، وموضوعا يتناوله المتطرفون لإثارة الفتنة باسم الدّين. لذلك أرى أن إثارة مثل هذا الجدل هو عبارة عن صراع سياسي وليس مجرد جدل عقلاني، صراع لهيمنة جندرية مقنّعة دينيا. إنّ القرآن الكريم نصّ عادل في الحديث عن الرّجال والنساء، وهو ما تفي به عديد الآيات القرآنية كما ذكرناه سالفا. والتصورات النسوية أو الجندرية التي تدافع ببسالة عن أحقية مناصفة التركة، تفترق تماما عن التصورات اللاهوتية، لأن لها أيضا آراء أخرى حول الحجاب والزواج والطاعة، لتقديم تصورات وحلول تحليلية ديناميكية تكمن فيها مسارات الإصلاح. القراءة عليها أن تكون سوسيو- تاريخية لفهم السّماح بالذكر أخذ حظ الأنثيين، وهو ما تقدّمه القراءات الحفرية المتعمقة في الممارسات المعرفية والثقافية في تلك الفترة الزمنية التي نزلت فيها الآية. تصطدم الدكتورة ألفة يوسف في كتابها حيرة مسلمة (2008) بجمهرة الـمدافعين عن أن نصيب الـمرأة نصف نصيب الرجل قائلة: "إن الرازي وسواه من الـمفسرين بين القدامى أقرّوا بأن في نقص نصيب الـمرأة من الميراث عن نصيب الرجل تفضيلا للرجل. أما الـمحدثون، فإنهم انبروا يبحثون عن تفسير منطقي لهذا النقص في حين أنه كان بإمكانهم من خلال قراءة النص ذاته أن يتبينوا أن النقص ذاته مستند إلى الإجماع لا إلى صريح النص. على أننا إذا افترضنا جدلا أن تضعيف نصيب الرجل متصل بإلزامه بالإنفاق على الإناث، فيمكننا القول حينئذ إنه لا حاجة المرأة إلى المال الـموروث البتة بما أن كل نفقاتها مكفولة من قبل الرجل. ومن ثم يكون العدل المنطقي أن نعتمد ما كان معمولا به في الجاهلية من عدم توريث النساء أصلا، لأنهن في كل الأحوال مكفولات من زوج أو أخ أو أب أو أمة إسلامية"[17]. تمارس المفكرة مسحاً للغبار الذي تكوّم فوق عقولنا ومـمارساتنا العرجاء، وفضحا لأفعال بشرية غير منصفة تدّعي تطبيق ما لم يقله القرآن بصريح العبارة، ألاَ يتيح القرآن الكريم إمكانات دينية لإحداث تغييرات في القانون والعقليات وفي الميراث، لم لا؟ فلنتذكّر مشاركة الـمرأة قديـما في الحياة الاقتصادية والسياسية والـمالية والـمدنية، وكيف كانت تُقدّر مشاركتها، والإسلام قد أعطى حقوقا سُلبت للمرأة والأرامل، وبالتالي فهو يدحض أيّ تشدّد صادر منه في حق النساء، وهي حجة نواجه بها الفيلقين: "التقليدي الـمتزمت" الذي يحتقر المرأة لتأخذ النصف أو التوجه "العلماني السّاخر" من هذه الأحكام الإلهية التي لم يُدرك مغزاها ولم يتدبّر في صورها وتـمثلاتها أو يتم التعمق في استنباطاتها ونصياتها. في المغرب مثلا نذكر مثال سهام بن شقرون من خلال ميدان اشتغالها، وهو التحليل النفسي، الذي حرصت من خلاله على تتبع مسار هذه التغييرات وكيف اعترف القانون المغربي منذ زمن بالمشاركة الاقتصادية للمرأة، رصدت السيدة "لامساواة" وأفكار انتهازية في مسألة الميراث التي ليس لها أي مبرر ديني، بل تخفي ممارسة ذكورية مهيمنة تسدّ أبواب النقاش لضمان مصالحها. ولنتذكر كذلك الخطوات التي تقوم بها الأحزاب السياسية كلّ مرة لردع أية مطالبة دستورية بالمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى.
..............
المراجع
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 53
[2]- لوس إريغاراي، هوية الـمرأة: بيولوجيا أم تكيّف اجتماعي؟، منشور في الكتاب الجماعي "النساء: نصف العالم، نصف الـحكم"، إشراف: جيزيل حليمي، ترجمة: عبد الوهاب ترّو، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، لبنان، ط1، 1998. ص: 93
[3]- محمد أركون، الـمرأة في الإسلام، منشور في الكتاب الجماعي "النساء: نصف العالم، نصف الـحكم"، المرجع نفسه، ص: 61
[4]- محمد أركون، الـمرأة في الإسلام، ص: 60
[5]- المرجع نفسه، ص: 58
[6]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة: في الميراث والزواج والجنسية المثلية، دار سحر للنشر، تونس، ط1، 2008، ص: 30
[7]- محمد أركون، الـمرأة في الإسلام، ص: 64
[8]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة، ص: 35
[9]- محمد أركون، "الفكر الإسلامي: قراءة علمية"، ترجمة: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، وبيروت، لبنان، ط2، 1996، ص: 47
[10]- يُنظر: محمد أركون، "من فيصل التفرقة إلى فصل الـمقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، ط2، 1995، ص: 83
[11]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة، ص: 31
[12]- محمد أركون، الـمرأة في الإسلام، ص: 58
[13]- لوس إريغاراي، هوية الـمرأة: بيولوجيا أم تكيّف اجتماعي؟، ص: 92
[14]- مختار الفجّاري، "نقد العقل الإسلامي عند محمد أركون"، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2005، ص ص 57 و58
[15]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة، ص: 32
[16]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة، ص: 33
[17]- ألفة يوسف، حيرة مسلمة، ص: 35