المواطنة والعنف
من غير الممكن ربما، أن يتم اختصار مفهوم الأمن الاجتماعي في بلد ما، بقدرات ومعدّات أجهزتها الأمنية، فهذا الجانب السياسي العملي للأمن، تبرز قيمته في مواجهة الحوادث أو الوقائع العنيفة المادية أو تلك التي من شأنها تهديد سلم المجتمع مباشرة.
أما تلك التي تنبع من حقائق اجتماعية موجودة، مثل الفقر وغياب العدالة، أو الفساد وعدم توفير الفرص الكافية للتطور، أو ترسيخ العنف في التعليم والبيئة العامة، فإن لها معادلات أخرى، لايمكن فهمها إلا من خلال الوعي.
معظم هذه الحقائق، تنبع من المجتمع نفسه، وتشكل انعكاساً لذهنيته المستمدة من أنساق موروثة أو أيديولوجيات دينية أو ثقافية طويلة الأمد، أو من تلك التي قد ترعاها السلطة في لحظة سياسية ما، لتنعكس على المجتمع فيما بعد، وتتصلب مع مرور الزمن، والمشترك في كل الحالات، هو غياب إعمال العقل، واستسهال المنجز في لحظة تاريخية أو ظرف ما، ليعمّم على أي مكان وزمان.
ففي التربية المحلية، يتعلّم الطفل الانتماء إلى جماعة محددة من البشر، ضمن مساحة محددة من الجغرافيا كذلك، وحين يتقدم في نموه، يتعلم أن جماعته الدينية وحدها على حق، حيث ينتشر خطاب تحديد الهوية الدينية في المدارس والمؤسسات الدينية العامة والرسمية، ثم تكرسه الدولة بوضعها ديناً رسمياً في الدستور.
بعد ذلك، يشكل المواطن في المجتمع شبكة علاقات أساسها مصالح قرابية مشتركة بناء على القبيلة، التي تأخذ أولوية حتى في المؤسسات الرسمية. هذه التربية تجعل وجود المواطن فيما بعد أشبه بضربة حظ، حسب قبيلته وظرفه المكاني، اللذين يحددان فرصه في العمل أو تحصيل الفرص بأنواعها في حالاتٍ عديدة.
أما على الصعيد الفكري والقيمي، فإن مبدأ الولاء للمواطنة الحقة، يتمزق بين القبلية والتوظيف الأيديولوجي الإقصائي بحجة الدين، كما يتمّ التعامل بين الأفراد في السجالات الواقعية الاجتماعية، وفي السجالات النقاشية التنظيرية حتى، بناء على أي شيء، إلا عقولهم، إذ إنهم يلجأون إلى صيغ مسبقة وفقاً للبيئة والظروف والنصوص الجاهزة الناجزة، فيتنابزون من خلالها مستخدمين النقل لا العقل.
إنه مبدأ التعامل مع مسلّمات منقولة، بلا روح، ولا خضوع للضرورات الاجتماعية التي تأخذ بأسباب التطور على كل صعيد، فالمشاكل تتطوّر وتتنوّع وتستوجب حلولاً أكثر جدة، وكذلك تخلق التكنولوجيا وعلاقات التصنيع الجديدة مثلاً، إضافة لتنوع أفكار الناس ودياناتهم، حاجات جديدة للتطوير، وقبل ذكر القوانين الدستورية، يجب ذكر التعليم.
لم يجمع علماء الاجتماع الحديث، عرباً وغرباً، على شيء كما أجمعوا على أن التربية والتعليم يشكلان الأساس للمواطنة الإيجابية، فإن كان التعليم مبنياً على حفظ المسلّمات في كل شيء، الفكرية منها والعلمية، وإحالة المواد العلمية إلى تخيّلات سحرية، وتحطيم المساحة الممنوحة للتساؤل، فمن أين يمكن للمواطن الذي يتربّى على هذه الحال أن يتحاوز إيقانيته، ولا يتسرّب إليه الوعي الجمعي ليجعله على حق في كلّ شيء ضدّ أي مواطن آخر يختلف معه.
أما بخصوص القوانين الدستورية، سواء تلك المستمدّة من شريعة دينية معينة أو من خلال أصول عادات وتقاليد، وأخرى تنظيمية يفرضها سياق الواقع، فإنها في الأصل، لا تشكل سوى قاعدة أو أساسٍ يمكن أن تنبني عليه التعديلات والتطورات وفق الحاجات الإنسانية والقيمية والحقائق التي تطرأ وتتغير في المجتمع، ومما لا ريب فيه، هو أن المواطن الأردني اليوم، ليس بذات المواطن الذي كان موجوداً قبل مئة عام على سبيل المثال.
يواجه الأردن اليوم ظواهر عديدة، تبدو مبنية على حدث عشوائي أو حالة محدّدة، لكنها ومن منظور علمي اجتماعي، تحمل أصولها وامتداداتها في المجتمع منذ أمد طويل بحيث تجعله مهيئاً للعنف في أي لحظة، فها هو جدل تعديل المادة 308 من الدستور الأردني، والتي تسمح للمغتصب بالزواج من ضحيته، ما زال مطروحاً للنقاش كأنه يحمل منطقاً يسمح بالنقاش، وهو منطق قائم على أن الضحية المجبرة "اغتصاب"، تتحمل مسؤولية تعرضها للعنف، الذي يجلب عليها عنفاً مركباً من المجتمع.
تعود أصول هذا القانون إلى عرف ما وعادات تجعل المرأة مخطئة بمجرّد سقوطها على أرض الشارع، إذ تعامل كجسد ناقل للرعب والعيب لدى الرجال واضعي القانون ومنفذيه في الغالب.
من زاوية أخرى، شهد الأردن اجتماعاً لأفراد إحدى القبائل العريقة، والذي أظهر فيديو تجمعهم، حملاً علنياً للسلاح وشعارات تمجد القبيلة على حساب مفهوم المواطنة بعد مطالبات لهم بنقض حكم عسكري اعتبروه ظالماً بحقّ أحد أبنائهم.
ظواهر عديدة، تسحق مفهوم المواطنة، منها الهويات القبلية والطائفية، منها قمع المرأة وازدواجية القوانين والأعراف في التعامل معها في القرن الحادي والعشرين، إضافة لترسيخ القوانين كمسلّمات تستوجب التعارك معها من أجل التغيير، ويحميها مجتمع تغلب المسلمات على نظمه التعليمية والتربوية، وحين يتساءل عديدون عن كم العنف الرمزي والخلاف المفضي للتهديد على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن هذا العنف، ليس سوى انعكاساً للواقع، الذي يتوزّع على قلاع صلبة دينية وتربوية وقبلية، تتحارب لتحافظ على مساحتها، ولتحطم مساحات الآخرين إن استطاعت، دون أن تقف لحظة وتفكر في أن الوطن يتسع للجميع، في حال كانت المواطنة مبنية على التسامح الذي يعني أن الوطن يتشكل من قيم الجميع.
عاصف الخالدي: كاتب وباحث من الأردن.