المهاجرون والأنصار

المهاجرون والأنصار
الرابط المختصر

 

لا أبرّئ ثقافتنا في الارتجال المباغت من كثير ممّا نحن فيه، إذ يسطع فجأة نجم موضوع واحد خطير، تتقاسمه الدوائر كلّها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والدينيّة والأمنيّة، فتقام له المحاضرات والندوات، وتوضع فيه المؤلّفات، وتوجّه الترجمات باتجاهه.

 

يفترض أنّ الموضوعات الخطيرة تندرج فيما يسمّى سياسات التأهّب، مثلها مثل الكوارث الطبيعيّة، حيث يتمّ التهيّؤ المجتمعيّ لها قبل أن تصير أمراً واقعاً، فتوقف، أو يكون ثمّة وعي راسخ في التعامل معها، والتخفيف من أضرارها، لكنّنا في كلّ مرّة نقبل عليها بعد أن تقع الفأس في الرأس، لنجد لها حلولاً باهظة الكلفة، ولنفتح، ملدوغين وموجوعين، ملفّات من مثل العنف الديني، والحاكميّة، والإرهاب، والتطرّف، والتعايش الدينيّ، بل العيش المشترك، العبارة الملطّفة التي قرّرها المنظّرون، والتي تقرع جرس الخطر بمجرّد ورودها في سياق رسميّ أو شعبيّ.

 

ألخّص السؤال الذي ضقت به منذ وقت طويل حول هذا الموضوع: ما الذي كانت تفعله كلّ ذلك الوقت ما سمّيت بمراكز الدراسات الإستراتيجيّة التي كان ينظر إليها بكثير من الجلال والتوجّس، وكانت تخضع لمراقبة أمنيّة حثيثة، والتي طالما واجهنا القائمون عليها ببرستيج بليغ، وحضور أشبه بحضور آلهة الإغريق في اجتماعات الأولمب!

 

يجد المواطن العربيّ المتابع لما وراء الحدث اليوميّ نفسه في لحظة أمام زخم التأليف باتّجاه إيران، وزخم الترجمة باتجاه "القسطنطينيّة"، مثلما كان قبل عقدين موجّهاً باتجاه طالبان والقاعدة، وقبلها باتجاه الاتحاد السوفيتيّ والحرب الباردة، وقبلها باتّجاه المكارثيّة... وتدفع المبالغ الطائلة لاستكشاف هذه القوى القديمة المتجدّدة، والمؤسف أنّ ذلك كلّه ليس سوى ردود أفعال، لا أصالة للفعل فيها، مع أنّ معادلة الاقتصاد والسياسة لم تتغيّر منذ فجر التاريخ، إذ يقبل السفراء على الدول الغنيّة، يحمون مصالح بلادهم التجاريّة، ثمّ يعيثون فساداً فيها، فتفرض عليهم تلك الدولة عقوبات حينما تكون قويّة، وحينما تضعف تحوّلهم إلى مستشارين، مثلما فعل السلطان مصطفى الثالث (1717- 1774) أيّام تدهور الإمبراطوريّة وصعود قوّة السفراء في القسطنطينيّة، إذ "غدا الصدر الأعظم يستشير كلاًّ من السفير الفرنسيّ والنمساويّ في اجتماعات ليليّة سريّة في الأكشاك المطلّة على البوسفور.. وكان السفراء الغربيّون من خلال بيع العضويّة القنصليّة الفخريّة لمنح الحماية لأفراد الأقليّات الأثرياء، يسهمون في إضعاف سلطة السلطان على رعاياه".

 

يتمّم العامل الدينيّ مشهد السقوط، إذ تتبادل السلطتان الدينيّة والسياسيّة اللّوم والعتاب، حيث ستبذل كلّ منهما جهداً في تبرئة نفسها، في نوع من رثاء الملك الذي يقترفه المتخاذلون، ويحيلونه إلى القدر:

"السلطان: لقد أسلم القدر الوضيع الدولة إلى الوضعاء/ اليوم كلّ الرجال ذوي المراتب العليا جبناء/ لاشيء يبقى لنا غير الأسى الأبديّ.

المفتي: حقّاً الدولة الدنيويّة باتت في قبضة الوضعاء/.../ ندعو الله أن تروي الشريعة حديقة الدولة!".

 

يعود تاريخ البشريّة إلى الوراء، بأشكال أيقونيّة دالّة، ويمكننا أن نأخذ البوصلة من الفنون، ولا بأس من أن نستمع إلى مصمّم الأزياء الإنكليزي ألكسندر ماكوين (1962- 2010)، وهو يقول في رؤيته عن الجمال المتوحّش: "الإنسانيّة تعود إلى المكان الذي قدمت منه".

 

في هذا الإطار تأخذ العولمة شكلها الجديد، لا التشاركيّ، بل العبوديّ، وسيتغيّر اتجاه الرحلة، حيث يسعى الشرق اليوم فيزيائيّاً وديموغرافيّاً باتجاه الغرب، وسيعود التعدّد اللّغويّ والثقافيّ الذي كان حاضراً في عواصم  الشرق التي وسمت بالكوزموبوليتانيّة، كالقسطنطينيّة العثمانيّة سابقاً، أو الإسكندريّة فيما بعد، أو في مستعمراتها ومحميّاتها في أوربة. سنجد اليوم أكثر ممّا سبق عواصم مغرقة في كونيّتها، لكنّها محاطة بعنف الأصوليّة الإثنيّة أو الدينيّة الذي سيحمله المهاجرون، وسيفخر أحدهم كما فخرت إحداهنّ، في مدينة (بيرا) في القسطنطينيّة، أنّ عشر لغات تستخدم في أسرتها: "فسيّاس خيلي عرب، وخدمي فرنسيّون وإنجليز وألمان، ومربّيتي أرمنيّة، ووصيفاتي روسيّات، وأكثر من خمسة آخرين من خادماتي يونانيّات، وطبّاخي إيطاليّ، وإنكشاريّتي أتراك".

 

سيحصل الآن مثلها على أمثالهم، لكنّهم سيكونون شرقيّين بعامّة، بلهجات مختلفة، ولغات متقاربة، وديانات متعدّدة، وفي وظائف تناسب العصر.

 

لعبت مراكز الدراسات الإستراتيجيّة العربيّة دور العرّافات، وكان الأفراد في زمن الخلافة الراشديّة رغم إمكانيّاتهم التاريخيّة المحدودة، أبعد نظراً من أولئك الذين درسوا العلوم السياسيّة في أحسن الجامعات أو في أسوئها. لقد تطيّر العامّة أو السواد كما يسمّيهم طه حسين بسبب من سقوط خاتم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من يد عثمان رضي الله عنه في بئر نازح، لكنّ الذين غيّبوا الخاتم، كانوا يشتغلون جيّداً على الوعي الجمعيّ للرعيّة، مثلما ظهرت الراية الشريفة، راية الرسول "ص" فجأة عام 1593 في حرب العثمانيّين ضدّ آل هابسبرغ النمساويّين. وكان عليّ رضي الله عنه، قد رأى المشهد ببصيرة السياسيّ، حين قال لعثمان: "وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمّة المقتول"، ولم يألُ عثمان جهداً في أن يحذّر الناس من قتله ليلة قتل، فهدّدهم بالفرقة: "لئن قتلوني لم يصلّوا بعدي جميعاً أبداً، ولم يقاتلوا عدوّاً جميعاً أبداً..."، ولعلّ السؤال الأهمّ الذي يثيره طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" هو: لماذا أبطأ عمّال عثمان في نصرته، ولماذا لم يصل أولئك القريبون في مكّة والطائف على أقلّ تقدير؟ ولماذا لم يحجّوا جميعاً في ذلك العام!". إنّها أسئلة مشروعة، وإجاباتها مغيّبة أو في عهدة التاريخ، لكنّ الثابت اليوم بناء على التجربة الإنسانيّة، هو أنّ المهاجرين يريدون حقوقهم، والأنصار يريدون حصّتهم.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.