إننا نبحث عن المعلم الجاهل وليس المعلم العاقل، لأن المعلم العاقل قد يسجن الذكاء داخل دائرة واحدة يعتقد أنها صحيحة. هذه العبارة لم يقلها جاك رانسيير في كتابه "المعلم الجاهل... خمسة دروس حول التحرّر الذهني"، لكننا يمكن لنا أن نستنتجها من ثنايا حديثه في ذلك الكتاب الذي بناه على تجربة معلم الأدب الفرنسي جوزيف جاكوتو، حيث عمل في التدريس سنوات طويلة من التعليم المدرسي والجامعي.
استنتاج مرّده أن المعلم الجاهل، بحسب جاكوتو، هو الذي يسمح لطلابه بالتفكير للكشف عن مناطق الجهل عنده وعندهم، أما الذي يمارس عليهم وصاية معرفية فهو يدمّر فيهم ملكة التفكير والإبداع، ويقتل فيهم البحث عن الجهل، ويجعلهم عبيداً لما يعرف، ويوجه طاقاتهم نحو تقليد طريقته في التفكير، بل ربما نستطيع القول أنه يمارس عليهم ديكتاتورية المعرفة الموهومة التي يعتقد أنها تكفي له ولغيره، وأنها تنفع لزمانه وزمان غيره، ولا يعي أن ما يعرفه قد أصبح ماضياً لا فائدة منه.
استطاع جاكوتو – كما يقول رانسيير – "التوصل إلى أن تحرير الغير يستلزم بالضرورة أن يكون المرء متحرراً، وأن يعرف نفسه بنفسه كمسافر في عالم الفكر وشبيه بالمسافرين الآخرين، وكذات فكرية مساهمة في القوة المشتركة بين الكائنات المفكرة"، كما استخدم طرقاً جديدة في التدريس تعطي الطالب كامل الحرية في التفكير، دون تلقينه أي معرفة، واكتشف أن الطلاب لديهم القدرة على التعلم دون معرفة مسبقة، فهم ذوات قادرة على فهم ما فهمه الآخرون وأنجزوه.
ومن خلال ملاحظته لتلك القدرات صار عنده شك في إيمانه القديم القائم على أن مهمة المعلم تتمثّل في نقل معارفه إلى تلاميذه، كي يصلوا إلى منزلة علمه، وأصبح يتبنى نظريته الجديدة القائمة على أن الفعل الأساسي للمعلم هو التفسير فقط، أما التدريس فهو عبارة "عن تبليغ للمعارف وتكوين للعقول كي تنتقل، عبر تدرّج منتظم، من الأبسط إلى الأعقد"، وهذه العملية في تنشيط التفكير، واستخدام المنطق تجعل الطلاب يمتلكون أداة التفكير دون حاجة لمساعدة الآخرين، وبإمكانهم بعد ذلك اكتساب فعل التعلم من خلال عقولهم التي تتحول إلى مختبر لإنتاج المعرفة.
يرى رانسيير أن "المعلم قد يسجن الذكاء بشكل تعسفي داخل دائرة، ويمكن تحرير الجاهل إذا كان المرء متحرراً هو نفسه، أي واعياً بالسلطة الحقيقية للعقل"، أي أن المعرفة قد تتحول إلى سلطة تستعبد صاحبها، ولا يستطيع التحرر منها، ولذا فإن وظيفة التعلم لا تركز على تثبيت تلك السلطة، بل تسعى إلى التحرر منها، وتحرير الطلاب منها أيضاً، "فالتعلم أصبح قائماً على التحرر من المعرفة، والمعلم الذي لا يتحرر منها يساهم في التبليد، والمتحرر لا يهتم بما يجب على المحرَّر تعلمه، فهو يستطيع تعلم ما يريد"، ولا ينتظر إذناً من معلمه كيف يعرف الصحيح من الخطأ، لأن أدوات التفكير عنده تصبح قادرة على خلق عالم خاص به، يرى ما يراه بذاته وبعيونه، ولا يرى المعرفة من وجهة نظر غيره وبعيون معلمه، "فالكائن العاقل هو، في المقام الأول، كائن مدرك لقوته، وهو لا يكذب على نفسه بخصوص هذه القوة"، فقد يمارس المعلم العاقل سلطة رؤيته، ويقول: "لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
لقد طرح رانسيير فكرة مهمة، وهي أن على المعلم مراعاة مبدأ التكافؤ، وهو المبدأ الذي يرى أن كلّ إنسان لديه القدرة على الفهم دون الحاجة لمساعدة الآخرين، والتكافؤ يعني التحرر من الضعف والاتكال والكسل، والاتجاه نحو التأمل والنظر في العالم واكتشاف ما لا نعرف.
لذا فلا "توجد سوى طريقة واحدة للتحرير، إذ لا يستطيع أي حزب، أو حكومة، أو جيش، أو مدرسة، أو مؤسسة، تحرير شخص واحد، إلا التعليم يستطيع ذلك" لكن بالتأكيد ليس كل تعليم، إنه التعليم الذي يدفع الطالب نحو البحث، كما يقول: "ابحثوا عن الحقيقة، لكنكم لن تجدوها دوماً وفي كل مكان، اطرقوا الأبواب، لكنها لن تفتح لكم، غير أن هذا البحث سيكون مفيداً لكم لتعلم الفعل ... تخلوا عن الارتواء من هذا الينبوع، لكن لا تتوقفوا أبداً عن السعي إلى الشرب منه، أقبلوا كي ننظم الأشعار. فلتحيَ فلسفة معرفة تجلي الذكاءات، فهي رواية لا ينضب معينها تتمتع بالخيال وليست مطالبة بتقديم تبريرات للحقيقة، وهي لا ترى هذه الحقيقة المنقّبة إلا من خلال اللباس التنكري الذي يغطيها".
إننا نبحث عن المعلم المتحرر من سلطة المعرفة، المتحرر من ذاته، المتحرر من وهْم معرفته بجهله، ولذا فإن جاكوتو –كما يقول رانسيير- يفضل متحرراً جاهلاً واحداً على مئة مليون عالم غير متحرر.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.