المسيحيون؛ أقلية أم مواطنون؟
منذ ظهور "داعش" تفشت بين المسيحيين العرب حالة تشبه "الفوبيا الجماعية" خوفاً من القتل والتهجير، وتزايد لديهم هاجس التعرض للإقصاء والتهميش، إذ تعرضوا لتخمة إعلامية من كثرة مشاهدة الاعتداءات الوحشية الممنهجة التي يمارسها التنظيم ضد المكوّن المسيحي في العراق وسوريا، وذبح للأقباط في ليبيا.
رافق هذه الحالة لدى المسيحيين تصاعد خطاب طائفي عند بعض الفئات والشرائح الاجتماعية مبني على ثنائية (نحن/ هم) في إشارة إلى الغالبية المسلمة مقابل "الأقلية" المسيحية. لم نكن يوماً في الأردن طائفيين بالتأكيد، ولم يكن الانحياز للهوية الفرعية دينياً، وإن لم يخل الأمر تاريخياً من وجود خلافات هنا وهناك منبعها ديني، إلا أنها عادة ما كانت تطوق ويتم إسكاتها من قبل أجهزة الدولة وفعاليات المجتمع الأهلي.
الحال اليوم تغير، "فالعيش والتعايش" عنوان جلساتنا ما دامت مختلطة، وما أن نغلق الباب على أنفسنا حتى يبدأ البعض بلعن الآخر، ونستنهض خطاب (نحن/ هم)، ونعقد العزم أننا لا نريد لأولادنا الاندماج مع الآخر ولا لعلاقاتنا الاجتماعية أن تمتد لتصله.
يكفي أن نتابع مواقع التواصل الإجتماعي حتى نلمس وجود هذا "النفس" العنصري المغرق في عصيبته الدينية والإقليمية بيننا، فلا يكاد يخلو يوم من إضافة أصدقاء وشطبهم من فضائنا الافتراضي بناء على رأي يحابي الـ"نحن" أو يهاجم الـ"هم ."فهل نلوم داعش والحوثيين على ما نعانيه اليوم من حالة" الانفصام الجماعي"، أم نلعن "الربيع العربي" لسرقة الزمن الجميل منا!
أي وقفة صدق مع الذات تحتم الاعتراف بأن العنصرية من سمات المجتمعات القبلية التي لم تتقن بعد أبجديات "قبول الآخر"، وتحمل في داخلها نزعة الانتماء للجماعات من أجل الحصول على الاعتراف الاجتماعي بالمجموعة (عشيرة، طائفة.. الخ) بدلا من تقدير الإنجاز الفردي. وما يحدث اليوم سببه أننا عدنا إلى منطق القبيلة، وبالغنا في الانتماء للجماعة البدائية على حساب الوطن، وتحولنا من مواطنيين إلى مشجعي كرة قدم، بانقسامنا إلى فريقي "المع" و"الضد".
تشوّه مفهوم الهوية عندما بتنا نؤكد وجودنا من خلال إلغاء الآخرين. عادة ما يولّد هذا المنطق القبلي لدى "الأغلبية" شعور بالقوة والسيطرة يقابله إحساس "الأقلية" بالإقصاء والتهميش، ويجعل هذه الأقلية في حالة صراع داخلي دائم وأزمة هوية. وهذا ما يحدث اليوم مع مسيحيي الشرق إذا أرادوا تصنيف أنفسهم كـ"أقلية" وليسوا مواطنين، ولذلك ما يبرره فقد أجبرتهم هذه الممارسات المتطرفة من حولهم على إعادة النظر في انتماءاتهم حتى آثروا أن يختاروا الدينية منها على حساب القومية.
وتصاعدت لدى بعضهم النزعة للهجرة وترك البلاد ظناً منهم أن هذه الدول "الأجنبية" ستستقبلهم وتدمجهم في مجتمعاتها على أساس اشتراكهم معها بالهوية الدينية، ونسوا أو تناسوا، أن هذه المجتمعات علمانية بالمجمل لا تلقي وزنا للهوية الدينية، وما كانت دعوات حكومات هذه الدول للمسيحين بالهجرة إليها إلا مسرحية سياسية تستثير النعرات الطائفية وتبعد كل البعد عن حقوق وحريات الأقليات التي تدعيها.
ويجب ألا نغفل عامل الثقافة واللغة الذي يقعد معظم المهاجرين العرب -خاصة كبار السن- في بيوتهم مسمرين أمام التلفاز لمشاهدة القنوات العربية مستسلمين للوحدة والكآبة في بلاد المهجر.
المطلوب ليس العزوف عن الهجرة ومقاطعة الغرب، بل أن تكون الهجرة من أجل العمل والدراسة والزواج والاستكشاف، لا لداعي الهروب من الواقع وتوهم حلول سحرية في مجتمعات لم نولد فيها، ولم نبنها، ولن تفيدنا بشيء. أكاد أزعم أنه لا يوجد أمام مسيحيي الشرق إلا حلاً واحداً وهو العمل على بناء مجتمعات مدنية تؤمن بالديمقراطية وحماية الحقوق والحريات الفردية، وألا تقبل أن تعامل معاملة مواطني الدرجة الثانية، وأن تنتزع مكانتها انتزاعا على أساس المواطنة وليس الامتيازات بوصفها مكوناً أساسياً لا أرقاماً تقاس بكثرة أو قلة.
الدولة الأردنية نفسها أمام امتحان يثبت جديتها في التعامل مع بؤر التطرف الذي يلغي الآخر ويخيف الأقليات ويشعرهم بالاغتراب والحياد داخل أوطانهم، ولن يستوي ذلك إلا من خلال تعزيز مفهوم المواطنة والدولة المدنية، وتطبيق القانون والمساواة بين المواطنين بالحقوق والواجبات على أساس دستوري بعيداً عن منطق المحاصة والامتيازات في توزيع الحقائب والمناصب العليا، ومن خلال توحيد خطاب الدولة العالمي والمحلي، فلا يصح أن نتحدث إلى العالم عن خياراتنا المدنية والإصلاحية تارة، ونلون خطابنا المحلي بما يناسب المرحلة والظرف تارة أخرى. فبناء الدولة المدنية يحتاج إرادة وقرار متى اتخذ لا يجوز التراجع عنه.
تمارا خزوز: صحافية وحقوقية أردنية حاصلة على ماجستير صحافة وأعلام حديث، وماجستير قانون التجارة الدولية، وناشطة في مجال الحقوق والحريات العامة.