أصبحت حوادث السير مثل كابوس يفجعنا كلّما استغرقنا في النوم، لنصحو بعد سبات مفجوعين بموت عزيز أو أنين مصابين في غرف المستشفيات، وكلما وقعت كارثة شحذنا أقلامنا وألسنتنا مندّدين بالسرعة الزائدة أو التجاوز الخاطئ أو مخالفة قوانين السير.
وبعد أن ندفن الموتى ونتقبّل العزاء ونداوي الجرحى على حساب شركات التأمين، ننسى ما حصل، ونشرب قهوتنا العربية مُرة كما عهدناها، ونسمح من أجل الله والوطن والملك والجاهة الكريمة، ونقتنع أن ما حصل مكتوب في عليين، وليس لنا يد في تغيير أقدار الله، بل حاشا لله أن نعترض على حكم الله، فإن من أركان الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره.
تلك هي ملهاتنا في التعامل مع كلّ الفواجع التي تسبّبت بها حوادث السير، ما يشير إلى تواطؤ تشترك فيه السلطة والمواطنين، فلا السلطة والحكومات تريد تغيير القانون، ولا المواطنين لديهم الرغبة في تغيير قناعاتهم بإيمانهم بحصول ما كتب الله لهم، حيث تزداد هذه الحوادث وتخلف آلاف القتلى والجرحى كل عام، "فقد أظهرت دراسة أعدتها مديرية الأمن العام في الأردن حول حوادث السير أن المملكة تشهد وقوع حادث سير كل 3.75 دقيقة وكل 24 ساعة يقع 11 حادث دهس، وكل 30 دقيقة يصاب شخص، وكل 13 ساعة يتوفى شخص نتيجة حوادث المرور". ونشرت صحيفة الرأي في شباط عام 2015 أن عدد الوفيات بلغ منذ بداية العام 2015 وحتى نهاية أيلول 479 وفاة، وبلغ عدد الجرحى (12159) جريحا حسب إحصائيات مديرية الأمن العام".
جميع هذه الأرقام من الجرحى والقتلى ما عدا ملايين الدنانير التي نخسرها لم تحرّك أي دمّ حكومي للنظر في المسألة من جوانبها المختلفة، ومحاولة معالجتها بطريقة مناسبة، وبقي الكلّ يعلّق الأخطاء والتهوّر ومخالفة القوانين والاستهتار بأرواح الناس على شمّاعة الله، ليخرج الجميع (عدم مسؤولية)، وكأن السيارات التي نركبها ونسوقها مأمورة من الله لتقتل عباده الصالحين وغير الصالحين، بل ربما يصدق عليها قول من يقول في بيوت العزاء للتخفيف من هول المصاب: "هالسيارات صارت عزرائيل"، فهل السيارات تسير بنفسها في الشوارع؟ أم أن الذي أخذ دور عزرائيل هو سائق يضرب بعرض الحائط كل قوانين الدولة والمجتمع؟
إذا أردنا فعلاً أن نقلل من حوادث السير فعلينا أولا أن نتحمّل نحن – وليس الله - المسؤولية كاملة، وأن تتغيّر قوانين السير بحسب قوانين الجنايات، فما الفرق بين من يحمل مسدساً ويطلق النار عشوائياً ومن يسوق سيارة في الطريق بشكل عشوائي؟
طبعاً سيقال إن المسدس آلة قتل، وإن الذي قام بالفعل يعي أن الرصاصة إذا أصابت شخصاً فإنها تقتله، وهذا صحيح، وكذلك السيارة آلة قتل، وإن على سائقها أن يعي حقيقة أنها قاتلة إذا تمّ استخدامها بطريقة خاطئة، وأن الذي يستخدم آلة قتل بطريقة خطأ فإنه يُعدّ قاتلاً في عرف القانون، وإن اختلفت تسميات القتل بحسب النية، فهناك القتل الخطأ، والقتل القصد، والقتل العمد، وربما من المهم تصنيف حوادث السير على هذا الأساس.
ما الفرق بين قاطع الطريق وشخص يقود سيارته بسرعة 160 كم على طريق محدّدة سرعته بـ 80 كم متر مثلا، لتخرج سيارته وتقفز فوق الرصيف إلى الجهة الأخرى فتقتل عائلة كاملة؟ أليس من المفترض أن يُطبّق على هذا الشخص قانون ترويع الآمنين وقتلهم دون سبب؟ أليس هذا قاطع طريق بثوب سائق؟ ثم هناك شخص يقود سيارة شاحنة تحمل عشرات الأطنان وبعجلات مهترئة، بسرعة جنونية، ثم تنكسر العجلات لتقتل عشرات ركاب حافلة آمنة لا ذنب لهم، أليس هذا كمن يحمل متفجرات ويلقيها في سوق كبير؟
وألا يعد ذلك العمل إرهاباً ضدّ المدنيين؟ وهناك باص مدرسة يحمل أطفالاً ويسير بسرعة جنونية بين السيارات ويطلق الزامور عالياً ويشتم الآخرين من حوله، أليس ذلك مريضا نفسيا يجب إرساله إلى مصحة عقلية بدل أن يروع الأطفال والمارّة؟ وهناك من يسوق في حي سكني بسرعة 100كم ويدهس طفلاً بريئاً، ألا يعد ذلك قتلاً عمداً؟ ألا يستحق ذلك القاتل أن ينال عقابه في السجن 15 عاماً؟
إن حلّ المشكلة يكمن في إيجاد قوانين تجرم الفعل الخاطئ لينال فاعله جزاء مناسباً يكون عبرة لغيره، وفي المقابل فإن هذه القوانين من المفترض أن تحمي السائق إن كان الخطأ ليس عليه، فهناك فرق بين حادث سببه المخالفة أو الإهمال وحادث بسبب خارج عن الإرادة، وليسوا سواء. أما أن تبقى القوانين بهذه (الميوعة) فذلك يعني مزيداً من الاستهتار ومزيداً من التهور ومزيداً من القتل ومزيداً من الخسائر في الأموال والأنفس والثمرات.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.