القوى الناعمة
أقال الرئيس الفرنسيّ فرانسوا أولاند، فلور بليرين، وزيرة ثقافته، وإحدى أهمّ عناصر فريق حملته الانتخابيّة، وذلك بعد أن سألتها المذيعة في برنامج شهير عن أحبّ روايات موديانو على قلبها، بعد فوز الأخير بنوبل، فاعتذرت الوزيرة عن أنّ عملها المرهق لم يمكّنها من متابعة روايات موديانو، هذا ما أثار سخط الشارع الفرنسيّ، حيث وزارة الثقافة وزارة سياديّة، حقيبتها ثقيلة، وليست (لنش بوكس).
عموماً تقصير الوزيرة في قراءة موديانو أو صراحتها التي كان عليها أن تُقدّر، ليس مربط فرسنا، فما يهمّنا أنّ السيّدة فلور، التي لقّبها أحد أصدقائها بثمرة الموز لأنّها صفراء من الخارج وبيضاء القلب، هي ابنة متبنّاة من أصول كوريّة، التقطت من شوارع سيول بعمر أيّام ثلاثة، حتّى نجح باحث في الفيزياء وزوجته، فرنسيّان، في تبنّيها بوساطة إحدى الوكالات التي تدفع بالأطفال عبر البحار. نالت الفتاة ذات العينين الممطوطتين أفضل تعليم، وقد أفصحت عن ذكاء ملحوظ، وعاشت مع والديها في ضاحية فرساي البرجوازيّة، وتخرّجت في مدرسة النخبة، وحصلت على شهادتها في الدراسات العليا. عيّنها أولاند وزيرة للاقتصاد الرقميّ، ثمّ وزيرة للتجارة الخارجيّة، بعد ذلك وزيرة للثقافة والاتصال. تسلّمت وزارة الثقافة من فلور سيّدة أخرى هي أودريه أوزلاي، وهي من أصول مغربيّة. فريق أولاند يضمّ خمس نساء مميّزات، فيهنّ نجاة بلقاسم وزيرة التربية، وهي أيضاً مغربيّة الجذور..
في الإطار ذاته، قفزت امرأة بالأسود لتعانق جياني إنفانتينو، السويسري- الإيطالي، رئيس الفيفا الجديد، ليتبيّن أنّها زوجته اللبنانيّة لينا الأشقر، التي كانت سكرتيرة في الاتحاد اللبنانيّ لكرة القدم، واقترنت به في العام 2000، وأنجبا بنات أربع، وكانت الأميرة هيا تساند أخاها الأمير عليّ طوال الوقت في جولات الانتخابات ذاتها، وأظهرت الصور مدى انهماكها في الوقوف إلى جانبه، وقلقها، ومحبّتها الأموميّة.
جوليانا عواضة هي ابنة لأمّ سوريّة وأب لبنانيّ، وزرجة ماوريسيو ماوكري رئيس الأرجنتين، وإيفون عبد الباقي اللبنانيّة، سفيرة الإكوادور في واشنطن، ووزيرة الاقتصاد، ومن ثمّ اتجهت إلى السباق الرئاسيّ، وبين أروقة المحاكم الدوليّة وسجّاد هوليوود الأحمر تلمع أمل علم الدين.. وثمّة إرينا بوكوفا، وسفيتلانا ألكسفيتش...
لكلّ امرأة من هؤلاء النساء حكاية، وحكاية صعبة أيضاً، مع الرحم، ومع الحليب، ومع الأب، والأخ، والجار، ومع الوطن، ومع المجتمع، ومع الحرب، ومع الدين، ومع المرض، ومع العنف، ومع الهويّة...وهناك دائماً قدرات فرديّة، وظروف، وحاضنة حرّة، وتعليم مناسب، وتهجير، ورمية نرد! كلّ ذلك جائز، لكن دعونا نقرأ كفّ المرأة العربيّة أو نتقصّى لمستها السحريّة، كفّ ليليت التي تعلّقها النساء تميمة، والتي تقول الأسطورة الرافديّة بأنّها كفّ إلهتهنّ التي ترعاهنّ ومواليدهنّ أربعين يوماً بعد الولادة، وكذلك عينها التي تسهر على حمايتهنّ، هي التميمة ذاتها التي نضعها ضدّ الحسد، أو لحماية المواليد الجدد، ليليت هي التي تمرّدت على رغبة آدم حينما أراد أن يتملّكها، وتركت له الجنّة وغادرت، وبقي وحيداً حتّى ظهرت له حوّاء كجائزة ترضية. نتحدّث هنا عن قوى ناعمة، تعرف كيف تمنح، لكنّها في الوقت ذاته لا يسند بعضها بعضها الآخر، بل غالباً ما تصطرع وتحترب، ويأتي التقصير، في عدم الوعي بالفكرة النسويّة، ولن أقول النظريّة، حتّى لا يقال إنّنا نحكي من فوق الأساطيح. لعلّ التفرّد، أو العبقريّة، أو النجاح يستدعي تحويل أفراده إلى نماذج ملهمة لا إلى أعداء...
ألفريدا يلينيك صاحبة “عازفة البيانو” والحائزة على نوبل تقول: «النساء محبطات لأنهن نساء» وإنها «حيثما تضرب بفأسها يجب ألا ينبت عشب»! لكن نحن النساء في هذا الجزء من العالم برغم تجاربنا القاسية، لدينا موروث من الخصب والنماء، لدينا الكثير من المسؤوليات التي تمنعنا من أن نذهب في الإحباط حد النهاية البائسة التي تذهب إليها يلينيك فتفاصيلنا كلها حكايات، حكاياتنا تأتي مع التلقّي الأوّل لخبر الولادة، وتكبر مع العيون والألسنة، ورعاية الآخرين، ومع الحرب والفقر، والتهجير، لا يمكننا أن نتخلى أو نستسلم، من أجل الآخرين طبعاً لا من أجل أنفسنا، هذا ما أورثتنا إياه الثقافة، هو موروث مرهق، لكننا اعتدناه، وأضفينا عليه فكرة المنح والكرم الأنثوي الذي، يتسق مع الشمس، ورائحة القمح، وأخبار الرعاة، وطقوس الدفن والزواج، ونحاول أن نتحايل عليه بتطعيمه بأفكار الحداثة والملتبسة مع فكرة الخطيئة، تلك كلها ثيمات يمكننا باستعمالها تحويل حياة من حولنا إلى نجاح وجمال، كما حولت النسويات عبر التاريخ مفهوم الشرف إلى مفهوم أكثر عملية ومعاصرة هو مفهوم الكرامة، وحولن فكرة العمل من حاجة إلى قيمة. هذا ما يجعلني أوافق على مصطلح الأدب النسوي، في وجهه الجديد، والذي يعني أن نكتب، ونشتغل، ونربّي متخلين عن الأحقاد، وأن نحكي عن تجاربنا التاريخية في القهر بمحبة، تماماً كما يحكي المرء عن عضو مشوه في جسده، عضو لازمه طويلاً، فأحبه بدافع الألفة، أو أن نحكي عن تجربة صعبة نرويها للآخرين ليتجنبوها، نحكي باعتزاز لأننا خضناها بشجاعة رغم الآلام التي رافقتها، ببساطة نحول الألم والازدراء إلى طاقة إبداعية.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.