الفضيلة في صورة خطيئة
يبدأ الكتّاب مع رغبة عارمة في مواجهة الأنساق، والقضايا الكبرى، ليكتشفوا مع الكتابة، ومع الكتابة الروائيّة تحديداً، أنّ أهمّ المعارك، وأجمل الانتصارات هو الاستمرار في الكتابة، لأنّها وحدها تمكّنهم من مقاومة الإحباط، وتثبت أنّ لهم صوتاً منفرداً، لا يتماثل مع صوت أحد، لكنّه يعبّر عن توق الملايين من البشر، وبسبب هذا التفرّد، مع القدرة على التعبير عن صبوات الأفراد والجماعات، يحارَب الكاتب من قبل المؤسّسة التي تجد أنّه ينازعها في العلاقة مع الآخرين، فتحاول أن تقصيه، أو أن تصوّر فضيلة الكتابة بصورة خطيئة.
بوصفي كاتبة، لا أفضّل النصّ العنيف، لا في لغته، ولا في طروحاته، فالتابوهات، بالنسبة إليّ، ليست أصناماً تحتاج إلى تحطيم، فننتهي منها، ذلك أنّها تملك سمة التجدّد والتخلّق بأشكال منزاحة، لذلك أجد التعامل معها يحتاج قراراً منطقيّاً لا رغبة عاطفيّة متلوّنة. إنّ سيرة الفنّ هي سيرة الأشكال المخاتلة وسيرة التحايل على التابو، أمّا الصراخ في وجه الأخير، فلا يؤدّي إلاّ إلى أن تتضرر حبالنا الصوتيّة وحدها، من غير أن يهتزّ ذلك التابو قيد أنملة.
سيكتشف الكاتب أنّ مواجهة العالم، التي طالما رفعها الأسبقون شعارات لكتاباتهم، ما هي إلاّ مواجهة المطبّات والمنعطفات التي في دواخلنا، وإنّ الانتصار في هذه الحالة منوط بالمواجهة الشجاعة، التي تبدأ بقرار خوض المغامرة، لا بحسم المعركة.
لعلّ الكتابة أشبه ما تكون بتحدّ عقليّ وروحيّ للذات أوّلاً، ثمّ يأتي الآخرون، الذين نكتب من أجلهم. نكتب لا لنقول لهم إنّنا نحبّهم أو نكرههم، بل لنقول لهم لماذا نحبّهم ولماذا نكرههم، ولكن لا بالاعترافات القوليّة المسطّحة، بل بالصور المركّبة والعميقة. أمّا السلطة، أيّة سلطة، أحاول أن أقصيها تماماً، كي لا يحدث نقص في الأوكسجين من حولي، فتتشوّه عمليّة الخلق بين يديّ.
أقسى وصف يمكن أن أطلقه على الروائيين تحديداً هو أنّهم لصوص الحياة! ذلك أنّهم يسرقون بعض التفاصيل من حيوات الآخرين، ويبنون عليها، أو يحوّرون فيها. يركّبون حياة بعض الأفراد على حياة أفراد آخرين، لينتجوا حالات جديدة، وشخصيّات مختلفة، إنّهم محترفون في التفكيك والتركيب، ومن غير هذا الإنتاج المستدام نفقد مهارات الملاحة في الحياة، ونكتئب، ونمرض، ونصاب بالهلع.
أنا شخصيّاً أعيش متعة اقتناص أبطالي، وأعيش تجاههم بعقدة ذنب في الوقت ذاته، وأحاول أن أحافظ على توازن هذا التناقض، مثل العشّاق أحياناً، ومثل المهووسين أحياناً.. وأولّد من الانزياح انزياحاً، فأدهش كثيراً، وأضحك كثيراً، وأبكي بالقدر نفسه، وفي حين يبدو عملي هذا للبعض خطيئة لأنّه يعرّي العالم، يكون في جوهره فضيلة، لأنّه يتمّم النقص في التجلّيات الواقعيّة للحياة.
تستيقظ مرارات الكاتب حين يواجه ذاته ببراغماتيّته، فهو لا يفوّت فرصة، بما في ذلك مرور ذبابة، إلاّ ويصنع منها حدثاً روائيّاً، ولا يترك كلمة قد سمع جزءاً من حروفها إلاّ ويطوّرها إلى جملة في حوار. الروائيّ يستفيد حتّى من خيباته، وفشله، ومن أبيه، وأمّه وأطفاله وجيرانه.. يسرق ضعف الآخرين، وحزنهم، وكذلك جبروتهم وفرحهم، ليصوغ من ذلك كلّه عالمه الروائي. إنّه المستفيد الأعظم من المتناقضات كلّها، فلا يكفّ عن تحويل أي شيء إلى لغة، لكن لا ليحتفظ بذلك لنفسه، بل ليمنحه لأولئك الآخرين، الذين يتعرّفون إلى الأشياء بمذاقها الأدبيّ الذي رسمه لهم، لا بمذاقها الفيزيائيّ.
تجذبني في الكتابة الموجودات الصغيرة والبعيدة أكثر من أيّة موجودات أخرى، إذ لا تعنيني مواجهة السلطة، أيّة سلطة، بقدر ما يعنيني طفل يواجه خوفه من الظلام، ولا تجذبني المكاشفات الجسديّة بقدر ما يعنيني العجز الكامن خلف قبلة لم تكتمل، وأضحّي بالكتابة عن الأبطال الاستثنائيين أمام تردّد صيّاد يواجه فريسته، وأهمّش أيّ ديكتاتور لحظة جبروته لصالح مشهد انزوائه في حمّامه الفاره وارتعاد فرائصه من عقابيل الطغيان، وأشطب بقلمي الكمال المدهش لأعرض آلام الأجساد المريضة والمشوّهة. إنّ الكتابة بوصفها فروسيّة هي التعبير عن المواجهة اليوميّة مع الحياة، أكثر من المواجهات مع القضايا الكبرى، فالأشياء الكبيرة تصنعها الأشياء متناهية الصغر، ولعلّه من الحكمة أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا من الصفر.
تحملني الكتابة على أن أستغني عن كلّ شيء، ما دمت أستطيع إنتاجه في كلمات، من هذا المنطلق لا يكون للكاتب ثمن أبداً، فحينما أمتلك مشروعي الكتابي أزهد في العالم بأسره، ولا يمكن لشيء أن يستفزّني أو يزعجني، أنتصر على أي متعاليّات ضاغطة، وتنطفئ علاقتي تماماً بما حولي، وأخرج الجميع من تحت قلمي، فيتدافعون أمامي على السطر، لأجد نفسي مثل ساحر يخرج العالم من كمّه. يمرّ على سطري كلّ الذين أحبّهم أو لا أحبّهم، وكلّ الذين يوهمونني بالحبّ أو الأهميّة، كي أكتب عنهم، فأحوّلهم من حيث لا يدرون، وبعبث طفوليّ أحياناً، أو بحزن، أو بسخرية، إلى ضحايا جميلة، متخلّصة بذلك من بشاعة أن أكون ضحيّة. أراهم يقرؤون النصّ، فيضحكون أو يدهشوون، وكثيراً ما أحزن بعمق على اقترافاتي المحبّبة! نعم نحن نتألّم مع شخوصنا، ونفرح معها، ونعجب بها، ونقع في حبّها، ونبكي عليها، لكنّ ولاءنا الأعظم يكون للنصّ، وللفنّ. حينما كتبت عن لبانة في روايتي "سجّاد عجميّ"، غادرت المنزل، وذهبت إلى مكان بعيد، وجلست أبكي حتّى المساء، إذ لا أستطع أن أعيد لها ولدها الذي أغرقته في النهر.
بالكتابة نقتل كلّ ما نريد التخلص منه، وتصبح علاقتنا بمن كتبنا عنهم، أو استعملناهم علاقة حياديّة، لا نؤذي بها أحداً، فهي خالية من أيّ موقف عاطفي، ومقتصرة على وجهات نظر عقليّة فحسب. لكنّنا نكتب أيضاً للتقرّب ممّن نحبّ!
لعلّ أجمل ما في هذا الفنّ هو أنّنا لسنا بحاجة إلى مفاتيح أو خرائط للشخصيّات، إنّنا نريدها كما نحب أن نراها، ليس كما هي في الواقع، وحينما أصطاد شخصيّة ما، أو حدثا ما يمتلك قابليّة دراميّة، لا أوغل في البحث عنه، وأشعر بمنتهى الحرية في تكوينه من جديد.
يصاب بعض الكتّاب بجنون العظمة، لأنّهم يستطيعون فعل أي شيء وتحقيقه بالكلمات، وحينما لا نهاب الكلمات نظنّ أننا لا نهاب شيئاً، فالكلمات لحظة الكتابة تشفي، وتُغني، وتصنع أوطاناً، وهذا الشعور يحررنا مع كل نص، لذلك حينما نعود إلى الواقع نبتئس، حتّى يأتي نصنا الجديد، وحلمنا الجديد. حينما يكتشف الكاتب أنّ كلماته في الواقع المعيش تفقد قوّتها السحريّة، يكتئب، وقد يصاب بالفصام، لذلك انتحر منا كثيرون، وجنّ كثيرون، ومرِض كثيرون بأمراض مناعيّة.
الكتابة عملية معقدة، لكن ليس هناك أهمّ من الكاتب مهما دخل الدخلاء، وكثرت النصوص السيئة، وتزايد عدد المتطفّلين والمسيئين. الكاتب نذر الحياة وقربانها الأكثر صلابة رغم أيّ شيء. بيجماليون، ونرسيس، وأوديب، وإلكترا، وسيزيف، وعشتار، وجلجامش، وميدوزا.. اخلط هؤلاء الأبطال جميعاً تحصل على الكاتب.
- روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".