"العنف المجتمعي" يتفشى و"حالة الإنكار" كذلك

"العنف المجتمعي" يتفشى و"حالة الإنكار" كذلك
الرابط المختصر

من يقرأ معظم التصريحات الرسمية التي تتناول قضايا "العنف المجتمعي" و"الاشتباكات الطلابية والعشائرية المتنقلة" ، لا يساوره الشك ، في أننا نعيش "حالة إنكار"، فالعنف المتنقل ككرة اللهب ، يخضع للتضخيم من قبل "إعلام غير مسؤول" ، والمسؤولون عنه ، ليسوا سوى "فئة محدودة" ، إما عناصر مدسوسة ودَخيلة ، أو طلبة مهملين ، وهو غريب عن مجتمعنا وثقافتنا ، ما يعني أنه "مستورد" إلى غير ما هنالك مما نسمع ونقرأ ونشاهد يومياً.

أما المعالجات المقترحة التي تجري على ألسنة كبار المسؤولين ، فهي من صنف التشخيص السابق: توقيف عناصر الشغب ، إتمام المصالحات العشائرية ، تسيير الجاهات والعطوات ، الاستنجاد بعقلاء القوم وحكمائهم ، تبادل الصفح والتسامح من حول "فنجان قهوة سادة" أو "سدر منسف" ، خطابات تفقد مفعولها لحظة الانتهاء من إلقائها ، وكلمات ووعود ، لا تصمد لمدة تزيد عن الفواصل الزمنية التي تزداد قصراً بين كل مشاجرة ومشاجرة.

ثمة طوفان من هذه الأحاديث المكرورة ، لكن أحداً من مطلقيها لا يتوقف للحظة واحدة للإجابة على عشرات الأسئلة والتساؤلات التي تتناسل من الوضع الراهن من بينها على سبيل المثال لا الحصر: طالما أن الأمر بهذه المحدودية والتواضع ، لماذا لا يتوقف العنف في المجتمع ، ولماذا تستمر كرة النار في التنقل من ساحة وجامعة ، إلى ساحة وجامعة أخرى ، لماذا يرتفع منسوب العنف والتخريب والتطاول على الممتلكات العامة والخاصة ، مشاجرة إثر أخرى ، وكيف أمكن لهذه العناصر غير المنضبطة أو المدسوسة أو "الفئة القليلة" أن تكون في كل الجامعات والمحافظات ، وأن يكون لها كل هذا الأثر في تعكير صفو حياتنا ، وتهديد نسيجنا الوطني والاجتماعي ، وتخريب حياتنا الجامعية والتعليمية ، وتشويه صورتنا أمام ناظرينا وأمام نظر العالم وسمعه؟

نحن في الحقيقة لا نأخذ بكل هذه الإطروحات ، ونعتقد أنها جزء من المشكلة وليست مقدمة للحل.

لست أنزع للمبالغة أو التطيّر ، لكن المراقب للمشهد ، ينتابه قلق مضاعف وخوف مركب ، أولا من حجم انتشار وتفشي مظاهر العنف والجريمة في أوساطنا ، وثانياً من استمرار هيمنة "حالة انكار" على البعض ، الأمر الذي يدفعنا للتشاؤم حيال المستقبل ، سيما وأن تفاقم هذه الظاهرة يترافق مع تفاقم ظاهرات أخرى ، منها على سبيل المثال لا الحصر أيضاَ: تنامي حالة الاستقطاب والثنائية في المجتمع الأردني من جهة ، وتفاقم الضائقة الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية.

دعونا نتلفت حولنا لنرى كيف تتفشى مظاهر عدم الاستقرار ، وكيف تحولت الشوارع في عدد من العواصم والمدن العربية ، إلى ساحات مواجهة ، تارة بين فئات من المواطنين ، وأخرى بين الدولة ومواطنيها ، وليس ثمة حصانة لمجتمع من مواجهة مصائر من هذا النوع.

أحسب أن الأوان لم يفت بعد للمعالجات الوقائية والاستباقية ، شريطة اعتراف المسؤولين بحجم المشكلة بعد أن تم الاعتراف بوجودها ، والإقرار بأن لها أسبابا كامنة في السياسات والإجراءات ، توطئة لتصحيح المسيرة والمسار ، بدءا بتفعيل القواعد الدستورية حول "سيادة القانون" و"المواطنة" مرورا بإطلاق ورشة الإصلاح السياسي الشامل ، وانتهاء باستعادة هيبة مؤسسات الدولة ، من دون إفراط أو تفريط في استخدام العنف الشرعي لقمع العنف المنفلت من كل عقال.

لقد تناول جلالة الملك عبد الله الثاني في خطاب الاستقلال العام الفائت ، هذه المسائل جميعها ، بل ويمكن القول أن خطاب الاستقلال استُغرْق كله في معالجة هذه التحديات ، وكان بمثابة "خطاب تكليف ثان"للحكومة ، ولقد تلقى الأردنيون وعوداً متكررة من المسؤولين بمعالجة هذا الملف ، لكننا إلى اليوم ، لم نلمس ثمار المعالجة ، وكل ما تبقى لنا من هذه الوعود ، هو المزيد من أعمال العنف والاشتباكات والمشاجرات والجرائم ، ويكفي أن نقرأ عناوين الصحف ليوم واحد ، حتى نصاب بالدوار لهول ما يدور حولنا ويحيط بنا من عنف وكراهية وتطاول على القانون ، واخشى أن يدهمنا الزمن ، فيما أجندتنا الوطنية لا تزال تزدحم بالعناوين المتفاقمة ذاتها ، مع فارق إضافي ، إنها ستكون أكثر تفاقما وأشد استعصاءً على الحل.

الدستور

أضف تعليقك