العلاقة بين "التمييز" و"الدستورية" أكثر وضوحا الآن

العلاقة بين "التمييز" و"الدستورية" أكثر وضوحا الآن
الرابط المختصر

أصدرت المحكمة الدستورية قبل أيام أول قراراتها القضائية المتعلقة بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، حيث بسطت رقابتها على أحكام الفقرة الثانية من البند (أ) من المادة (5) من قانون المالكين والمستأجرين رقم (22) لسنة 2011 التي تنص على عدم جواز الطعن بالحكم المتعلق بتقدير أجر المثل، واعتبرت أن ذلك النص القانوني باطل وجدير بالإلغاء لمخالفته أحكام الدستور.

إن أهمية ذلك القرار القضائي لا تقتصر فقط على اعتباره فاتحة خير لمباشرة المحكمة الدستورية دورها الرقابي في إلغاء النصوص القانونية المخالفة للدستور، بل يمتد إلى أبعد من ذلك إلى اعتبار أن المحكمة الدستورية ومن خلال قرارها الأول قد قدمت أوراق اعتمادها كجهة قضائية مستقلة تصدر أحكامها النهائية في الطعون المحالة إليها بعدم الدستورية لتكون ملزمة لكافة السلطات في الدولة ومن ضمنها محكمة التمييز الأردنية التي هي أعلى جهة قضائية في الأردن. فقد سبق لمحكمة التمييز أن تصدت لدفع سابق يتعلق بعدم دستورية المادة ذاتها من قانون المالكين والمستأجرين والذي أحيل إليها من محكمة صلح حقوق العقبة، إلا أنها قضت بعدم جدوى إحالته إلى المحكمة الدستورية بعد أن تصدت من تلقاء نفسها للبحث في دستوريته وتوصلت إلى نتيجة مفادها عدم وجود أي نص في الدستور يقضي بأن التقاضي على درجتين باستثناء ما ورد حصرا بخصوص القضاء الإداري، كما قضت محكمة التمييز بأن جميع الأسباب التي وردت في ذلك الدفع لا تنطوي على الجدية المطلوبة قانونا لإحالته للمحكمة الدستورية كونها لا تخرج جميعها من حيث النتيجة عن كونها كلاما مرسلا.

إن محكمة التمييز – مع كل الاحترام – قد جانبت الصواب في اجتهادها السابق وتجاوزت الدور القانوني المناط بها والمتمثل في مجرد البحث في جدية الدفع المثار بعدم الدستورية والمحال إليها من محكمة الموضوع لغايات إحالته إلى المحكمة الدستورية. وقد عبّرنا في ذلك الوقت عن خشيتنا من أن يكون ذلك القرار الذي أصدرته محكمة التمييز برد الدفع المتعلق بعدم دستورية اعتبار أجر المثل قطعيا بمثابة حكم قضائي نهائي بإعلان دستورية قانون المالكين والمستأجرين، وأن تكون محكمة التمييز قد تحولت إلى محكمة دستورية ثانية بعد أن قامت بالاعتداء على اختصاصات المحكمة الدستورية وباشرت مهامها وأعمالها في الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة.

إلا أن تلك المخاوف لم تدم طويلا، فقد أثبت القضاء الأردني أنه قادر على استيعاب كافة التطورات التي تطرأ على النظام القانوني الأردني، وأن لدية قدرة فائقة على التأقلم مع تلك التغيرات. فلم تحتاج محكمة التمييز إلى وقت طويل لكي تعود إلى رشدها القضائي، وتعيد ترسيم العلاقة بينها وبين المحكمة الدستورية وذلك بفضل خبرة وحنكة أعضائها القضاة المشهود لهم بالعلم والمعرفة القانونية المميزة. ففي أول فرصة سنحت لها، قامت محكمة التمييز بتصحيح موقفها وتقويم سلوكها بأن أحالت الدفع المثار مرة أخرى بعدم دستورية المادة المتعلقة بنهائية القرار الصادر حول أجر المثل وعدم إمكانية الطعن به في قانون المالكين والمستأجرين إلى المحكمة الدستورية، ولم تصر على موقفها السابق من عدم جدية ذلك الدفع وعدم الجدوى من إحالته إلى المحكمة الدستورية.

أما المحكمة الدستورية فلم تلتفت بدورها إلى الوراء ولم تتردد للحظة في إصدار قرارها الأول المتضمن عدم دستورية تلك المادة في قانون المالكين والمستأجرين دون حتى أن تفكر في مجاملة محكمة التمييز واجتهادها القضائي السابق حول النقطة القانونية ذاتها. فتكون المحكمة الدستورية بذلك قد كرّست استقلاليتها عن باقي الأجهزة القضائية الأخرى وأكدت على الصفة الإلزامية لقراراتها القضائية في مواجهة كافة السلطات في الدولة ومن ضمنها المحاكم الأردنية على اختلاف درجاتها.

إن الضبابية التي شابت العلاقة بين محكمة التمييز والمحكمة الدستورية في بداية عهدها له ما يبرره، ذلك أن تجربة القضاء الدستوري في الأردن هي تجربة فتية لم تنضج بعد، حيث إن الاختصاص القضائي الذي كانت تمارسه المحاكم الأردنية على اختلاف درجاتها وأنواعها فيما يتعلق بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة كانت رقابة امتناع تقتصر فقط على وقف العمل بأي قانون أو نظام مخالف لأحكام الدستور، ولم تكن رقابة إلغاء كما هو الحال عليه في المحكمة الدستورية. كما ساهم في تلك الضبابية موقف المشرع الدستوري الأردني الذي اختار أصعب الطرق وأكثرها وعورة لقيام الأفراد بإيصال دفوعهم المتعلقة بعدم دستورية أي نص في القانون أو النظام إلى المحكمة الدستورية وذلك من خلال محكمة الموضوع أولا ومن ثم محكمة التمييز ثانيا.

وأمام محدودية الرؤية في التعاطي مع الترتيبات القانونية الخاصة بإيصال الدفع بعدم الدستورية إلى المحكمة الدستورية، فقد كان من الطبيعي جدا أن تتداخل الحدود القانونية بين محكمتي التمييز والدستورية، وأن تختلط الاختصاصات فيما بينهم، وهو ما ظهر جليا في القرار الأول الصادر عن محكمة التمييز والتي قامت وبشكل غير مقصود بالتعدي على الدور المناط بالمحكمة الدستورية في الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، فكان من الطبيعي أن ترتفع حدة المخاوف من أن يؤدي ذلك التزاحم بين أكبر جهتين قضائيتين إلى إفشال تجربة المحكمة الدستورية التي طالما منينا النفس بإنشائها وإخراجها إلى حيز الوجود.

إلا أنه وبعد تلك البداية غير الموفقة، عادت الأمور إلى مجاريها بين المحكمتين واتضحت الرؤية بشكل كامل فيما يتعلق بآلية عمل كل منهما فيما يتعلق بالقضاء الدستوري، وذلك بعد أن قامت كلا المحكمتين برسم خطوط علاقتها مع الأخرى بشكل دستوري سليم. فها هي محكمة التمييز قد بدأت تمارس دورها القانوني بمهنية عالية تحسد عليها وذلك من خلال إحالة الدفوع بعدم الدستورية التي تصلها من محاكم الموضوع إلى المحكمة الدستورية، فقامت بإحالة الدفع بعدم دستورية قانون الانتخاب وعدم دستورية قانون التحكيم إلى المحكمة الدستورية، وهي دفوع جدية تنطوي على نقاط قانونية على درجة عالية من الأهمية ستتصدى لها المحكمة الدستورية وكعادتها بكل حرفية واقتدار.

لقد أثبتت المحكمة الدستورية وخلال الأشهر القليلة الماضية من بداية عملها أن إنشاءها كان زينة التعديلات الدستورية الأخيرة، وأنها خلال تلك الفترة القصيرة من عمرها قد تمكنت من إثبات نفسها كمؤسسة قضائية مستقلة قادرة على القيام بما أناط بها الدستور الأردني من مهام تفسير الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النفاذة، فكانت عند حسن الظن بها وذلك من خلال القرارات التفسيرية الثلاثة التي صدرت عنها حتى الآن، والقرار القضائي الأول المتضمن عدم دستورية أحكام المادة (5/أ) من قانون المالكين والمستأجرين.

* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية

العرب اليوم

أضف تعليقك