العشائر والمدينة: العودة إلى القرن التاسع عشر

العشائر والمدينة: العودة إلى القرن التاسع عشر

ما حصل في السلط من عنف أهلي خلال الأيام الماضية هو نسخة دقيقة عما حصل في عجلون قبل عدة شهور، وهو ما كان يحصل في المدينتين قبل قرن من الزمان أو أكثر!

المشكلتان في جوهرهما عداء عشائري يفجره مقتل أحد افراد العشائر المحيطة بالمدينة على يد أحد سكان المدينة، مما يستدعي رد فعل عنيف من قبل أفراد العشائر، يتسبب بأضرار، فيقوم أبناء عشائر المدينة برد فعل على رد الفعل.

الشيء الوحيد الذي اختلف اليوم هو وجود قوات الدرك للتدخل.

لا أقصد مما قلته أن أقلل أبداً من قيمة عشائر السلط والعبابيد وعجلون والمومنية، فلهم كل الاحترام، وجميعهم معروفون بالسمعة الطيبة. ولكن الحديث هنا عن أوضاع اجتماعية تخترق الدولة وتضغط على عصبها وترهقها وتضعفها، وتاكل من كبد المشروع الوطني. وهي أوضاع تتكرر في مناطق أخرى في الأردن عند ادنى مشاحنة بين شابين، وربما طفلين، في وضع مشابه.

أحداث السلط بالذات جاءت بعد هبة المعلمين المجيدة. وهي بقدر ما فطرت قلوب الوطنيين الأردنيين بعمق فإنها قدمت مادة دسمة لأعداء الوطنية الأردنية ومتكسبي المحاصصة، والذين وجدوها فرصة للتشفي، واستخدموا النتائج السلبية للمشاجرات العشائرية واستغلوها لمهاجمة العشائر أولاً، ولمهاجمة الأردنية كهوية ثانياً.

ولكن هجوم اعداء الهوية الوطنية في هذه الأحداث لا ينبغي أن يمنعنا من تسمية الأشياء بمسمياتها، فقد حان وقت الوقوف بحزم أمام تجار الذهنية العشائرية، وصار لزاماً على الوطنيين الأردنيين أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون دولة مدنية ذات هوية وطنية أردنية، أم مجرد دويلة ضعيفة تضم شرق الأردنيين وتحافظ على هويتهم دون التزام بالحداثة والتمدن. وشتان ما بين الخيارين.

وحتى لا نقع في سوء التفسير فإن هناك فرقاً شاسعاً ما بين العشائر وما يحدث هنا وهناك باسم العشائرية. ويكفي هنا أن نشير إلى أن العشائرية أصبحت اليوم مطية برز بواسطتها بعض من أفراد الجيل الجديد من الزعماء العشائريين، والذين لا يمتلكون شيئاً من الصفات التقليدية لشيخ العشيرة، مكتفين باستغلال العصبية العشائرية للوصول إلى مزيد من النفوذ، وبالطبع على حساب نفوذ الدولة. وكلما نجح الزعيم في تسعير العصبية كان عدد أنصاره أكبر، وبالتالي نفوذه أكبر وأكبر. وبقدر ما يكون ناجحاً في إخراج أنصاره من المراكز الأمنية عقب المشاجرات، يكون ولاء أنصاره له أقوى.

العشائر اليوم ليست عشائر ما قبل عقدين أو ثلاثة. اليوم هناك فرز واضح داخل العشيرة من حيث المداخيل. وأصحاب المقاعد العليا أصبحوا مرتبطين بالعشيرة من ناحية، وبالمصنع أو الشركة أو ما شابهها من ناحية أخرى، فيما بقي سواد العشيرة وقوداً للمشاجرات وخزاناً جاهزاً للأصوات عند الانتخاب، وبما يخدم أصحاب المصالح المزدوجة.

أبناء العشائر هم النواة الحقيقية للدولة الأردنية التي نطمح إليها. ولكن التركيبة العشائرية الحالية وبشكلها المطروح هي عدو شديد الخطورة للمشروع الوطني الأردني وللدولة بشكلها الأساسي، وهي مشروع تفتيت حقيقي خطير. وليس من حل سوى بالنضال لتقديم تراكيب اجتماعية وتحالفات تسمو فوق حدود الجغرافيا والعشيرة.

لدينا اليوم نموذجان، الأول هو نموذج مشاجرات السلط وعجلون وفقوع والمزار الجنوبي والطيبة. وهو الذي ينذر بخطر على المشروع الوطني الأردني وعلى الدولة نفسها.

أما النموذج الثاني فهو نموذج إضرابات واعتصامات عمال المياومة وعمال الموانئ والمعلمين، والتي قدمت كل منها حالة من الانصهار الوطني الحقيقي، وكان عمادها أبناء عشائر تقليديين تماماً، معظمهم قادم من القرى. وفي آخر تحرك بالذات –إضرابات المعلمين- أظهرت السلط ومناطق عباد، رغم تأخرها في الحركة، حالة متميزة من الإلتزام الواسع بالإضراب، حيث توقفت مدارس مدينة السلط وعارضة عباد ومناطق عيرا ويرقا عن العمل بشكل شبه كامل.

لدينا نموذجان. وعلينا أن نختار. ولكن من الواضح أن المهادنة والطبطبة ما عادت قابلة للاستمرار. وبقدر ما يجب أن نفضح ونعري أنصار التوطين والمحاصصة فإننا ينبغي أن نقف بحزم أمام من يجعل العشيرة عقبة في طريق الدولة الحديثة بدلاً من أن تكون شريكاً فيها.

أضف تعليقك