الطيّار الصمادي: ضحايا لا أبطالاً

الطيّار الصمادي: ضحايا لا أبطالاً
الرابط المختصر

 

صمتٌ رسمي عن أنباء تسريح "ترميج" الطيار الأردني مجدي الصمادي –كالعادة-، وتجاهلٌ تام للواقعة في الإعلام، باستثناء ما تناقلته بعض المواقع الإلكترونية المحلية والعربية، وما عبّر عنه نشطاء على الفيسبوك من اعتزازٍ بابنهم الذي رفض زيارة الكيان الصهيوني، فاستحق الطرد من عمله.

 

لا يصمت عقل النظام عن الإعلانِ بفصل جندي، وأن يردّ ذلك إلى أسباب "معلومة ومحددة" فحسب، إنما علينا جميعاً أن نبقى أسرى التباس جارحٍ ومقيم؛ مذنبين لدى السلطة بلا أحكامٍ معلنةٍ أو صكوك غفران، وأبطالاً في الهامش يحتفل بهم أناس منفعلون ومشوشون يسارعون بإهداء أبطالهم إلى النسيان.

 

ليس من ذنبٍ ارتكبه الصمادي أو الدقامسة من قبله، وليس من ذنوب ارتكبناها نحن، عندما اختلط علينا العدو بالصديق كما يُتهم بذلك الأول، لأن هذا الخلط يدل على أزمة تتعلق بالمؤسسة والجماعة ومصيرهما، لا معاناة فردٍ مهما دفعت به معاناته نحو "النكوص عن تلبية الواجب". وليس من ذنب حين اختزلنا الصراع بـ"الثأر" حتى لو كان تجاه أطفال أعدائنا حيث نُعت الثاني؛ فالدولة لم تستطع إقناع أيّ منا بجدوى الحرب أو السلْم، ثم تحولت في نهاية المطاف إلى قبيلة أو مجموعة مقاتلة تطلب الثأر لابنها حين قُتل، مؤخراً، على يد أولياء الدم والظلام.

 

لي ذاكرة متخمة تعاقبني كلما استحضرت تفاصيل التحقيق مع الجندي الدقامسة، فأتناسى وقائع كثيرة ولا أنسى اعترافاً نُسِب إليه في الصحف بأنه قد تحرش بفتاة في أحد الشوارع ذات مرة، ولا أجد لليوم ما يدعو إلى الربط بين كبته الجنسي واضطراباته النفسية وبين التهمة الموجهة إليه إلّا الإحساس بالمهانة من قِبل سلطةٍ تسعى بكل قواها إلى إدامة الكبت –بمستوياته المركبة- لدى مواطنيها، ثم تقرر في لحظة معينة فضحهم بسبب مخالفتهم أوامرها، لا لكونهم أساؤوا للمجتمع وأعرافه.

 

لا تتوقف الفانتازيا التي نعيشها عند هذه الحدود، إذ يبادر الأفراد المهزومون إلى البحث عن أوهامٍ يتعلقون بها وتحجبهم عن مواجهة الحقائق، ومنها ردة فعلهم المتكررة بتعميد أبنائهم "الخارجين عن السلطة" أبطالاً بينما هم ضحايا، وربما تكون هذه هي الحقيقة الأولى التي عليهم مواجهتها.

 

الانفعال والوهم المسيطر علينا يدفعنا إلى تشكيل ردود فعل متسرعة وعابرة، كل غايتها التطهر من "إثم" التخلي عن إخوتنا "المطرودين أو المعاقبين"، ولم ننجح –ولو مرةً- في القيام باحتجاج منظّم يرفع الظلِم عن أصحابه ويعيد تعريف المفاهيم الملتبسة في حياتنا، فيما تصمت السلطة ولا تفصح عمّا قامت به، لتواصل سياستها عبر إشعار أفرادها بالذنب لأنهم تضامنوا مع "أحد الخارجين" عليها، وتحقق مرادها سواء بعقاب من تريد منهم، أو بإعادتهم إلى الحلم بـ"جنتها".

 

مع تكرار هذا السيناريو مرات عدًة، نؤكد هنا على التباسنا الجارح والمقيم؛ نحن المذنبون أمام السلطة بلا أحكامٍ معلنةٍ أو صكوك غفران، ونحن الأبطال في الهامش يحتفل بنا أناس منفعلون ومشوشون يسارعون بإهدائنا إلى النسيان.

 

وعليه، لن تكون حادثة تسريح الضابط الطيار مجدي الصمادي استثناءً، فالضحايا لن يصبحوا أبطالاً مهما بذلوا في سبيل ذلك ما لم يتخلصوا من إحساسهم المتوهم بذنوب لم يرتكبوها، وهذا ما يحتاج إلى تحصينهم بمزيد من المعرفة وامتلاكهم لإرادتهم، ولكن يجدر بنا التساؤل عن الوهم الذي يكبر لدى هؤلاء الضحايا، وعن معنى أن يصاب جميعنا بهذا الفصام!

 

محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.