الصين والعرب.. التنمية بديلاً للديمقراطية
عند الحديث عن مستقبل العلاقات الصينية العربية، هنالك ثلاثة عوامل أساسية تتثمل في صعود النموذج الاقتصادي الصيني الذي يواصل نموّه السريعه بثبات، وازدياد الحاجة للطاقة عالمياً، وكذلك طرق الحرير الجديدة التي تجتاز معظمها بلداناً إسلامية وعربية نحو أوروبا.
التحوّل تجاه الصين اتخذ خطوات درامتيكية منذ الأزمة المالية عام 2008، مع اقتراب التبادلات التجارية بينها وبين العالم العربي إلى مئتين وخمسين مليار دولار؛ أي ما يقارب 700٪ مقارنة مع كانت عليه سنة 2004، حيث أصبحت الصين إما شريكاً تجارياً رئيسياً أو مصدراً رئيسياً للاستثمار مع أكثر من اثني عشر بلداً عربياً.
تحضر السعودية كمثال بارز وسط هذه المعادلة، حيث صدّرت حوالي 48 مليار دولا إلى الصين بينما تراجع تصديرها إلى الولايات المتحدة إلى ما يقارب 13 مليار دولار، عقب الأزمة المالية، ما ينطبق بشكل مماثل على العراق وعُمان والكويت، ورغم أن النفط يشكّل قوام هذه الصادرات إلا أنه ظلّ المحرّك الأساسي لبلدان الخليج العربي طوال العقود الماضية.
لا تبدو الأرقام وحدها كافية لاستيعاب الأوضاع التي يعيشها العرب في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد تفشّي فيروس "كوفيد – 19"، إذ ارتفعت نسبة البطالة في صفوف الشباب، بموازاة انكماش الاقتصاديات العربية وعدم قدرتها على خلق فرص عمل جديدة، ويبقى السؤال الملحّ إن كان بوسع الاستثمار الصيني في العالم العربي قادراً على توفيرها.
كما أن الاستثمار الصيني الذي يتركّز في قطاعات البناء والإسكان والطاقة ويؤسس مشاريع ضخمة، في مصر والجزائر والمغرب تحديداً، يطرح تساؤلات حول تعزيزه العديد من فرص العمل خاصة لمن لا يمتلكون تعليماً جمامعاً أو لديهم تدريباً منقدماً، لكنه لم يحدث حتى اليوم تأثيراً كبيراً في زيادرة مهاراتهم، مع استيراد الكفاءات الصينية للعمل في هذه المشاريع.
ومن المرجح أن تتسارع العلاقات الصينية العربية على مدى العقد المقبل، مما يعزز الاقتصادات ويخلق فرص عمل جديدة، مهما كانت آفاقها، لكن العلاقات التجارية والاستثمارية القوية مع بكين يبدو أنها لن تقدّم حلاً سحرياً للمشكلة الرئيسية التي تواجه المنطقة، في الآونة الأخيرة، والمتعلقة بأزمة الوظائف التي ستفرض تداعيات ربما يصعب مواجهتها استناداً إلى المعطيات الحالية.
أما بخصوص الطاقة، فتتصدر السعودية قائمة الدول المصدّرة للنفط إلى الصين، التي تتزايد احتياجاتها للطاقة مع نمو صادراتها طردياً، بعد أن تجاوزت إيراداتها من روسيا، لتستحوذ مع العراق وعُمان الكويت إلى جانب أنغولا معظم الصادرات النفطية وتشكّل مجتمعة نحو 40% استيراد الصين من النفط، ومن المتوقع أن تزداد هذه النسبة مع الأيام المقبلة، ما يتطلب حماية أكثر لممرّات الصين البحربة في منطقة الشرق الأوسط التي لم تكن ضمن أولوياتها.
وفق هذه المعطيات، اعتبرت بكين الشرق الأوسط منطقة مجاورة تقع ضمن أولوية استراتيجيتها منذ عام 2013، تلاها إطلاق الحزب الشيوعي الصيني ما أسماه "وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية" سنة 2016، والتي ركّزت على الطاقة ثم البنية التحتية وتسهيل التجارة البينية، والاستثمار، وصولاً إلى التعاون في مجالات الفضاء والطاقة النووية للأغراض المدنية.
تقلّبات أسعار النفط بعد كورونا، وهشاشة سوق الطاقة، والمعوقات التي تواجه قطاع البتروكيماويات مع ارتفاع تكاليف الإنتاج، ستسبّب حالة من عدم اليقين في المنظور القريب رغم توقعات تعافي الأسواق، بالإضافة إلى ارتفاع تعرفة الشحن التي أدّت إلى غلاء أسعار السلع ولا يبدو ثمة تأثير كبير على مستقبل العلاقات العربية الصينية.
الرؤية الصينية تقارب العلاقات السياسية من مع العالم العربي بشكل مضاد للرؤية الأميركية، حيث تعتمد الأولى على "السلام التنموي" الذي يضمن الاستقرار لنظام متعدد الأقطاب في الشرق الأوسط قائم على عدم التدخل في دولة المنطقة، والذهاب نحو شراكات محايدة معها لا تفرض املاءات سياسية عليها، في سعي لتجنّب تكرار نماذج غربية في التدخل بشؤون المنطقة، بينما لا تزال ترفع الولايات المتحدة يافطة "السلام الديمقراطي أو الليبرالي" في سياساتها تجاه العرب، والذي تتشكّك الدبلوماسية الصينية في إمكانية نجاحها.
ويرى محلّلون غربيون بأن بكين تواصل الحفاظ على رؤيتها المحايدة مع نمو مصالحها في المنطقة العربية، ومع انسحاب واشنطن منها، فإن الصين ستجد نفسها مجبرة على حماية هذه المصالح بنفسها، رغم أنها لا ترغب حتى الآن في تعزيز تواجدها الأمني والعسكري لكنها قد لا يكون أمامها سوى هذا الخيار في غضون الأعوام المقبلة.
طوّرت الصين مفهومها للسلام من خلال التنمية انطلاقاً من ثلاثة عوامل رئيسة، الأول يتصل بصعودها المتنامي في الساحة الدولية والذي يقود إلى بناء دور لها في الدول التي تعاني من النزاعات، والثاني يتعلّق بتنفيذ خططها ضمن مبادرة "الحزام والطريق" التي تتطلّب تحديث البنية التحتية للنقل والاتصالات في أوراسيا، والثالث يرتبط في اعتقاد يسود دوائر صنع القرار الصينية بأن تجربتها الخاصة في التنمية يمكن أن تقدم نموذجاً يمكن للدول الأخرى أن تحذو حذوه.
في هذا الإطار، ينتقد الصينيون النهج الأميركي الذي يريد فرض الديمقراطية من أعلى إلى أسفل بغض النظر عن الظروف المختلفة من بلد إلى آخر. وبدلاً من ذلك، يقدّمون اقتراحاً معاكساً يتأسس من القاعدة إلى القمة، ويقوم على تحقيق المصالحة السياسية في بلدان الشرق الأوسط،، والتنمية الاقتصادية فيها، والبناء الاجتماعي، والتعليم.
هل تحلّ التنمية مشاكل المنطقة العربية؟ سؤال لا تبدو إجابته سهلة إذا ناقشنا تفاصيل أزماته المعقّدة، ومنها الملف الإيراني الذي تلعب فيه الصين دوراً حيوياً يقوم على استنئاف المفاوضات بين طهران والولايات المتحدة يلزم الأولى بالامتثال بالتزاماتها النووية بينما ترفع الثانية العقوبات الأحادية المفروضة من طرفها، ويعقب ذلك مؤتمر إقليمي حول أمن الخليج من أجل إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية، بل إن الصين تدعم امتلاك السعودية –مثلاً- مفاعلاً نووياً لأغراض سلمية، وهي غايات لا يمكن ترجمتها في الواقع بسهولة، حيث لا يزال الدور الأميركي الأكثر تأثيراً في هذا الملف، كما أن مسار الأحداث لا يمضي بحسب أجندة السلام التنموي الصيني.
ويُنظر في الوقت نفسه إلى أن الصين لم تستطع أن تنقل اهتمامها بالشرق الأوسط من كونه منطقة مصالح حيوية إلى منطقة ذات أهمية جيوسياسية، وهي تقسّم شراكاتها مع دول المنطقة إلى أربع فئات بحسب أولوياتها الاقتصادية على النحو التالي: شراكات استراتيجية شاملة مع الجزائر ومصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تمثّل الفئة الأولى، وشراكة ابتكارية مع "إسرائيل" وعلاقة تعاون إستراتيجية مع تركيا (تربطها تفاهمات واتفقيات أقلّ من مع كلا البلدين اللذين يمثلان الفئة الثاتية، وشراكات استراتيجية متوسطة مع العراق والمغرب والسودان، ثم شراكات استراتيجية صغيرة مع جيبوتي والأردن والكويت وعُمان وقطر.
في المستقبل القريب، وربما أقرب مما يتوقعه الكثيرون، فإن الصدام بين الرؤيتين الصينية والأميركية سيتخد تنافساً وحدّة أكبر، حيث تصرّ الأولى بأن السبب الجذري لعدم الاستقرار الإقليمي هو الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وضعف البنية التحتية، والنمو السكاني المتسارع، وهجرة العقول، وترى الثانية أن الديمقراطية والليبرالية هما الحل الوحيد، بينما لا تزال الأنظمة العربية عاجزة عن صوغ خارطة طريق لخروجها من صراعاتها الإقليمية ومشاكلها الداخلية، ومنع التدخلات الخارجية.