الصفوف الأولى
أعتقد أنّكم تتحاشون الجلوس في الصفوف الأولى، لاسيّما في اللقاءات التي يشار فيها إلى أنّ الدعوة عامّة، فالصفّ الأوّل محجوز دائماً، عليه أوراق بأسماء محدّدة، أو أوراق مغفلة من الأسماء، ممهورة بمفردة "محجوز"، وتعرفون بحكم التقاليد أنّها لأولي الشأن غالباً!
جاءت فكرة الصفوف الأولى بداية من الحرب، فالصفّ الأوّل الذي يطلق عليه اسم الفيلق المتقدّم، هو الذي يضمّ القادة الكبار، والأبطال الأشدّاء، وفيهم الملك أو الأمير أو السلطان، أولئك الذين يستقبلون الموت، ويذودون بأجسادهم عن الآخرين.
ورثت الثقافة الإسلاميّة أهميّة الصفّ الأوّل من شعيرة صلاة الجماعة، فالصفّ الأوّل للمقبلين بشغف على الصلاة، يصلون قبل غيرهم، فيجدون لهم مكاناً يسع وجدهم، ويمنحهم الأجر الذي سعوا إليه، في حين تكون الصفوف الأخيرة من حظّ المتقاعسين، إذ حدّث أبو هريرة عن الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قال: "خير صفوف الرجال أوّلها، وشرّها آخرها"، والحكم في الفضل هو للرجال حصراً، لأنّ فضل النساء بالعكس، فخير صفوفهنّ آخرها.
في أمسية لـ أدونيس أقيمت في إحدى المراكز الثقافيّة غير الحكوميّة، أدهشني الإقبال الكبير لجيل جديد من الشباب القارئ لنصّ أدونيس الاستثنائيّ، الصوريّ، والمركّب، والهارب من الوزن! كان الناس قد حضروا قبل ساعة وأزيد على موعد اللقاء، طمعاً في الحصول على مكان مناسب وقريب من المنبر، ليستمتعوا بساعة ونصف من قصيدة النثر، التي لم يكن المتلقّي العربي العادي قادراً على التفاعل معها قبل عشرين سنة، نتيجة الفرق الثقافيّ والذائقة الموروثة.
ممنوع الاقتراب، طبعاً، من الصفين الأوليّين على طول القاعة، وعلى أيّ من الحضور أن يبدأ الجلوس اعتباراً من الصفّ الثالث، وهكذا غصّت القاعة من الخلف، حتّى صار الناس وقوفاً على الأبواب، وبقي الصفّان الأوليّان فارغين. دخل ناقد كبير، بكلّ ثقله المعرفيّ، واتجه بعفويّة ليجلس في الأمام، لكنّ الموظّفة الموكّلة بالتنظيم، والتي تعمل مثل درع للمقابحة، طلبت إليه أن يقوم ليجد مكاناً آخر، إنّها تجهل مقامه المعرفيّ، وهو الذي وضع كتباً بعدد سنوات عمرها.
مع اللحظة الأخيرة لدخول الشاعر، توافد سكّان الصفوف الأولى: مسؤولون، وإداريّون، وعسكر، ومدّعون...
كانت الكاميرا تدور على الجموع، لتعرض على شاشة كبيرة الوجوه المستغرقة في سماع أدونيس يتلو "ملوك الطوائف"، وكان ركّاب الصفّ الأوّل يتململون، أو ينامون، أو يلعبون بهواتفهم الخليويّة، ثمّ يقومون قبل نهاية الأمسية متعللين بانشغالاتهم غير الثقافيّة، في حين يقضي شاب فتح عقله للصورة التي تشبع المعنى، الأمسية واقفاً يحيّي بروحه الشعر والشاعر، وكذلك يفعل أكاديميّ ممتلئ بجلال المقام!
لن تصير حالتنا الثقافيّة حقيقيّة، وتفاعليّة، إلاّ إذا آمنّا بتفاني الناس العاديّين، وبنبلهم الفطريّ، وبحقّهم في أن يكونوا في المكان الذي يبذلون جهدهم الطيّب ليكونوا فيه، ولن تصير صادقة، وغنيّة إلاّ إذا تخلّصنا من ظاهرة حجز الصفوف الأولى!
- د. شهلا العجيلي: كاتبة، وروائيّة، وأستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".