الشخصية العدوانية السلبية

الشخصية العدوانية السلبية

 في الوقت الذي يحتلّ فيه الطب النفسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس السلوكي مراتب متقدمةً في دول عرفت قيمة هذه العلوم ووظّفتها خير توظيف في تحليل السلوكيات الفردية والظواهر الاجتماعية وفرّعت عنها علوماً أخرى ذات قيمة وفائدة عظيمة مثل علم النفس التربوي وعلم النفس الجنائي، تنظر حكوماتنا قبل مجتمعاتنا لهذه العلوم نظرةً دونيةً معتبرين إياها مجرد “صف حكي وتنظير”.

 من واقع تجربة شخصية أزعم بأنني مدين لهذه العلوم التي توصلت من خلالها لفهم إحدة الظواهر السلوكية التي كثيراً ما نصادفها دون فهم أسبابها ودوافعها؛ تلك هي الشخصية العدوانية السلبية “Passive Aggressive Personality”.

 تمثل هذه الشخصية واحداً من أكثر أنواع الاضطراب السلوكي تعقيداً وغموضاً، حيث يتسم المصابون بهذا الاضطراب بأنهم يعيشون حالةً مزمنةً من الإنكار والتناسي لكل ما من شأنه إلقاء جانب من المسؤولية عليهم لأي تصرف أو خطوة ما.

إذا ما واجهت شريك حاية أو زميل أو زميلة في العمل كثيرة اللوم بحيث تلقي بلائمة على كل شيء مهما صغر شأنه ولو كانت حالة الطقس على الآخرين، وهي من بعد تكذب كما تتنفس لتبلور حالة الإنكار الدائمة والمزمنة بحيث قد تقسم بأنها لم تقل كذا وكذا على الرغم من كونها قالته بل ربما ووثقته أو سجلته، فإذا ما جوبهت به مثلاً موثقاً أنكرت السياق أو المغزى أو أي شيء آخر، أو –وهذا ما يحدث عادةً مع هذه الشخصية- بدأت بالصياح والالتفاف والدخول في أمور لا تمت بصلة للموضوع محل البحث، فالصياح والصراخ والصوت المرتفع هي أهم أدوات الدفاع وركائز حالة الإنكار التي تعتمد عليها هذه الشخصية للتنصل من أي مسؤولية مهما صغر حجمها، إذا ما جوبهت بهذا كله فاعلم يا صاح أنك حتماً في مواجهة شخصية عدوانية سلبية وما عليك إلا السمع والطاعة أو الفرار والنجاة.

 الشخصية العدوانية السلبية؛ شخصية لا تعترف بفضل أحد عليها ولديها قدرة مذهلة على لعب الأدوار المختلفة بحسب الحاجة والطلب، فقد تكون كارهةً لأمها أو أبيها أو أولادها أو زوجها أو أصدقائها...ثم لا تجد صعوبةً في ذرف الدموع حينما تأتي سيرتهم بل قد تتعمد هي الإتيان عليها لخلق بيئة يمكنها من خلالها لعب دور الضحية المغلوبة على أمرها المحبة للآخرين، وهذا عادةً يكون لدفع اللائمة واستدرار التعاطف وجذب الانتباه، هذا فضلاً عن كونه بمثابة خطوة استباقية لدرء أي لائمة أو تساؤل محتمل عن دورها في تردي علاقاتها بهؤلاء الذين تكرههم حقيقةً وتبكيهم زعماً وتمثيلاً.

 هذه الشخصية تتسم بالوقاحة بحيث لا تعبأ كثيراً بمشاعر الآخرين فهي على استعداد تام لأن تحيك الأكاذيب التي من شأنها تشويه سمعتهم بدافع الغيرة أو التنافس أو صرف الانتباه عنهم وجذبه إليها، كما أن الوقاحة عادةً تبلغ بهذه الشخصية مبلغاً يجعلها تنتقد الآخرين وتقلل من شأنهم وتجرحهم على مسمع منهم، فإذا ما وبّخها أحد على التصرف المشين، لجأت مرةً أخرى لحالة الإنكار بنفي ما حدث بالكلية أو نفي القصد الواضح والظاهر منه.

 الشخصية العدوانية السلبية تعشق التوافه بتفاصيلها، فهي ذات قدرة غير اعتيادية على إمضاء ساعات وساعات في الحديث عن أمر بسيط لا يتطلب عرضه وإبداء الرأي فيه أكثر من جملتين في دقيقة أو دقيقتين، وهذا العشق للإسهاب الممل لدى هذه الشخصية مرجعه في الغالب ما تتسم به من خواء فكري واضمحلال ثقافي، الأمر الذي تدركه في مكنوناتها وتحاول التغلب عليه بالتكرار والإعادة والإزادة في أي نقطة تافهة لا يتطلب الحديث عنها ولا فيها مخزوناً معرفياً أو ثقافياً يذكر، لتحل لعنة السماء على من ساقته أقداره ليكون مستمعاً لهذا التكرار والإسهاب الذي لا يتمكن الكثيرون من فهم أسبابه ودوافعه.

إرضاء هذه الشخصية أمر محال يستعصي على المنال، فهي دائماً ساخطة وربما تجد في الشكوى والسخط متنفساً يمكنها من ابتزاز مشاعر الآخرين وكسب تعاطفهم معها ولو إلى حين، كما أن هذه الشخصية لا يمكن الوقوف على كل خصالها الذميمة التي تتسم بها من أول أو ثاني ولا حتى ثالث لقاء، فهي ذات قدرة عالية على التظاهر والتلون بما يتطلبه الموقف خصوصاً مع من لا يعرفونها ومن لم تقودهم أقدارهم البائسة على معاشرتها.

 المعضلة في الشخصية العدوانية السلبية تتمثل في أنها لا تعترف بوجود اضطراب لديها من الأصل، الأمر الذي يجعل إخضاعها للمعالجة السلوكية والسايكواجتماعية؛ مسألةً غايةً في الصعوبة، فحالة الإنكار تنسحب لتطال -بالإضافة إلى تصرفاتها اليومية المضطربة- أي محاولة لإيصال رسالة لها تفيد بأن ثم ما يجب تقويمه ومعالجته لديها، وكيف لا وهذه الشخصية ترى في نفسها أفضليةً وفوقيةً تخلق هي لها مبرراتها ومسوغاتها التي وإن بدت للقاصي قبل الداني هزيلةً ومضحكةً، فإنها تبدو لها غايةً في المنطق والجدية وحَريَّةً بالقبول.

ثمة خبر سيئ آخر حول هذه الشخصية يتمثل في عدم اعتبار خبراء الطب النفسي السلوك العدواني السلبي مرضاً نفسياً يمكن معالجته بالعقاقير، وإنما هو خلل سلوكي واعي يتطلب علاجاً معرفياً ومسلكياً على أيدي علماء النفس وليس أطباءه، وهذه المسألة بدورها تضيف إلى العقد عقدةً أخرى بحيث تبدو هذه الشخصية وكأنها داء بال دواء، خصوصاً مع وجود عنصر الوعي والتعمد في معظم المسلكيات المضطربة التي تصدر عن هذه الشخصية، فهي تعلم بأنها تتناسى وتكذب وتسهب وتجرح وتهين الآخرين وتنظر إليهم نظرةً دونية.

 إذا أوقعتك الأقدار في احتكاك مباشر مع هذه الشخصية فعليك التعاطي معها بوصفها ظاهرةً سلوكيةً مرضيةً وفر منها فرارك من الأسد، وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك أيها المسكين، لكن المعضلة كل المعضلة تكمن في جواب سؤال مخيف: ترى كم من زعماء هذا العالم وقادته والمتحكمين بمصائر شعوبه لديهم اضطراب الشخصية العدوانية السلبية؟

مهند العزة: خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان، وكاتب في حقل الإصلاح الديني

أضف تعليقك