أخذت قضية الردة في التاريخ الإسلامي، قديماً وحديثاً، مساجلات ومطارحات واسعة، ومازالت ليومنا هذا تعود إلى بؤرة السخونة مع كل قضية قد تثار ضد شخص كتب مقالا أو قال كلمة، حيث يكون من السهل على خصومه اتهامه بالردة، ورفع شكوى ضده، ليصار إلى تطبيق القانون عليه، قانون وأحكام المرتد. وقد حصلت قضايا مشهورة ضد علماء ومفكرين في بعض الدول العربية، واتهموا بالردة وتم تطبيق الأحكام عليهم.
إن قانون الأحوال الشخصية الأردني المعمول به ما يزال يحكم على المرتد بتطليق زوجته، وحرمانه من الميراث وكامل حقوقه المدنية، انطلاقا من أن هذا القانون هو مستمد من أحكام الشريعة الإسلامية. وهنا تظهر المشكلة الشائكة في الفهم والمصطلح، إذ إن تعريف المرتد مفهوم مختلف فيه لدى فقهاء المسلمين، وهو مصطلح فضفاض، يستطيع كل واحد أن يفهمه كيفما يشاء، ويفسره حسب مبتغاه، وربما هواه. لذلك كان على قانون الأحوال الشخصية أن يبين معنى كلمة "الردة" التي ستطبق عليها أحكام القانون الذي يتحدث عنه، لأن المعنى عند الناس يميل إلى تسطيح المفهوم وتبسيطه، ويصبح من السهل إطلاق الحكم على أي شخص بمجرد كلمة يقولها أو يكتبها.
أنا هنا لا أريد أن أدخل في التفاصيل الفقهية للقضية، فهي موجودة عند كثير من العلماء، وقد كتب الدكتور طه جابر علواني منذ أربعة عقود كتابا جلّى فيه جوانب المسألة، وهناك كثير من الردود عليه. لكن في هذه العجالة يمكننا الإشارة إلى بعض النقاط في المسألة، من أهمها؛ أن أحكام الردة بمفهومها الديني تتنافي مع حرية الاعتقاد، التي أقرها القرآن الكريم إقرارا لا غموض فيه، فكيف نوازن بين تأكيد القرآن على أن "لا إكراه في الدين"، وحكم من لا يؤمن بالدين الإسلامي؟ أما المسألة الثانية فهي عن أن حكم الردة لم يذكر في القرآن الكريم، مع أنها حسب أحكام الفقهاء تعد من الحدود التي لا يجب التهاون في تطبيقها، فكيف يترك القرآن حدا جزاؤه القتل، ويتحدث عن أحكام بسيطة؟ فقد ذكر أحكام الزنا والسرقة صراحة وحدد الحكم تحديداً دقيقاً.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بالآيات التي استشهد بها كلا الفريقين، الذين يقرون حد الردة والذين ينكرونه، فقد أورد المقرون الآيات التالية:
- قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ "آل عمران: 102".
- قال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ "آل عمران: 85".
- قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ "البقرة:109"
أما الذين ينكرونه، فيستدلون بالآيات التالية:
- قال تعالى: " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" البقرة 256"
- قال تعالى:" وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" الكهف 29".
- قال تعالى:" فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ "الغاشية 21-22".
- قال تعالى:" إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين" القصص 56".
- قال تعالى:" وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " البقرة 217".
والظاهر أن الآيات جميعها لا تذكر أي حكم للردة، بل تتحدث عن الترغيب في الدخول في الإسلام، وأن الذي يرتد عن دينه سيكون عليه جزاء يوم القيامة، عند الله، وليس هناك أي تحديد لعقوبة دنيوية.
وأما القضية الرابعة فإن الحديث عن حكم الردة في الأحاديث والتاريخ الإسلامي هو حديث عن ردة المحاربين، بمعنى آخر من يترك الجيش الإسلامي ويذهب إلى جيش العدو، وهو ما يمكن تسميته اليوم "خيانة الوطن" والتعاون مع الأعداء، وهو أيضا ما يتعلق بخيانة سياسية لا علاقة لها بالمعتقدات والدين. ومما يعزز ذلك أن هناك خلافا كبيرا بين الفقهاء على وجوب تطبيق حكم الردة على المرأة، وعند كثير منهم فإن الحكم لا يجوز على المرأة والطفل، وهذا يشير إلى أن حكم الردة له علاقة بالمحاربين وليس بالأشخاص غير المحاربين، فهو حكم عسكري سياسي، وليس دينياً اعتقادياً.
تكمن خطورة إدخال الردة على مستوى المعتقدات المعتقدات في الحكم على أفكار الناس وآرائهم، وستكون سيفاً مصلتاً على رقابهم، وإسكاتهم، والحكم على نوايايهم، وهذا لا يمكن إثباته، لذلك فإن حرية المعتقد جعلها القرآن من المبادئ الأساسية، لأن الإكراه على الدين هو مدخل للنفاق والكذب من جهة، ومدخل للتجني على الناس وقمعهم، واستغلال ذلك للكيد لهم وقطع ألسنتهم عن أي نقد. ومن هنا يجب على المشرعين لقانون الأحوال الشخصية الأردنية أن يعرّفوا ويحدّدوا معنى المرتد بالخائن والمتعاون مع الأعداء والمفسد في المجتمع، وأن يبعدوا المعنى الديني عن بنود أحكامهم، فالدين والمعتقد لا يعلمه إلا الله، وهو الذي يجازي عليه أو به.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.