الرجل الأطول قامة!
صحا منكمشاً في فراشه، ومدّ جسده تحت الغطاء، لكن قدميه لم تصطدما بحافة السرير. استفاق مذعوراً يتلمس كامل أعضائه التي صغرت في غفلةٍ من نوم!
طوله يتجاوز 187 سم، ووزنه يقارب التسعين كيلو غراماً، ورغم أن نموّه قد تأخر حتى سن السابعة عشرة، إلاّ أنه كان في غاية الفرح يوم نقله المدرس من المقعد الأمامي – بوصفه أقصر التلاميذ- إلى الصفوف الخلفية في الصف الأول الثانوي.
غادر "فراش الغدر" إلى الصالة متوجهاً إلى خزانة التلفاز وأخرج "المتر"، ليقيس قامته مرات عدة بلا فائدة، وقرر أخيراً إنكار السنتمرات العشرة التي خسرها فجأة من دون سابق إنذار.
نزل إلى الشوارع التي ضاقت، فتفاجأ بانخفاض مستوى البنايات، وبالمارّة الأصغر أجساداً مما اعتاد رؤيته، وبضآلة أحجام المسؤولين في سيارتهم الفارهة، فتملّكه اليقين بأن العالم بأسره يتضاءل، ولا حاجة به للقلق مطلقاً في وطنٍ غدا جميع سكانه من قصار القامة.
بعد مضي أسبوع آخر، اكتشف –بغتة- أن خزانة المطبخ العلوية لا تطالها يده، فسارع إلى التحقق من الأمر، ليجد أن طوله لا يتجاوز متراً وستين سنتمراً.
في الطريق إلى عمله، كانت السماء هابطة بغيومها على المدينة، التي خلت ميادينها وشوارعها من أزمات المرور لتقلص حجوم المركبات والشاحنات، وبدت بوابات الجامعات والمدارس واطئة جداً، بشكل يتوافق مع قامات طلبتها وخريجيها وأساتذتها، وكذلك أبواب المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة والمحال التجارية، لكنها ظلت واسعة وكبيرة قياساً بالداخلين والعابرين منها.
جلس على مكتبه الذي أصبح يتناسب مع هيئته الجديدة، ومدّ يديه القصيرتين نحو الصحيفة التي تقلصت كثيراً، وكذلك تراجعت أهمية الأحداث التي تغطيها، وصار يكفي التعليق عليها بكلمتين أو كلمة أو قليل من بياض، فليس هنالك ما يثير الحماسة والانتباه في البلد.
أُعلنت جميع معالم البلاد ضمن موسوعة جينيس للأرقام القياسية، بوصفها الأصغر على وجه المعمورة، ولم يلفت ذلك انتباه المواطنين، إذ تناهى إلى مسامعهم أن البلاد المجاورة لم تعد تظهر على الخرائط الدولية، ولا يكترث العالم إلى وجودها ووجود زعاماتها أيضاً.
انقضى شهر وشهران، والرجل يقصر سنتمتراً سنتمتراً، ما ألزمه مدّ ذراعه كاملة ليمسك مقبض الباب، وعليه أن يبذل جهداً من أجل الجلوس على المقعد، ووضع السلالم في جميع غرف البيت وأنحائه لاحتياجه الدائم لها، وظل مقتنعاً أن أحداً لا يلحظ قَصره المتسارع، فالجميع مشغولون بحالة تقزمهم المضطردة.
جائلاً في أفكاره ورؤاه العظيمة، لم يكترث بالأسواق التي صغرت، والشعراء والكتّاب والسياسيين الذين يضطرون لصعود أدراج عديدة للظهور على المنصة، والمسيرات الاحتجاجية التي لا تتراءى لانكماش المشاركين فيها، وإلغاء البطولات الرياضية لعدم قدرة اللاعبين الصغار الالتزام بشروطها في بلد لم يعد رجاله يلمحهم بشر.
مرّت سنوات، وظل الرجل مؤمناً أنه المواطن الأطول قامة!
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.