الدين لله والتديّن للإنسان

الدين لله والتديّن للإنسان

إذا كان الله هو مصدر الأديان فمن المفترض أن تكون متشابهة، وإذا كان النص الديني من مصدر واحد فمن البديهي ألا نختلف حول مفهومه. هذا منطق الأشياء، وهذا منطق العقل، أما الواقع فهو خلاف ذلك؛ تنافض كبير بين الأديان وخلافات حادة، يستحيل حلها.

قد يكون هناك رد جاهز، خاصة لدى المسلمين ومفاده أن الأديان الأخرى قد تم تحريفها وتبديلها والعبث بها، وهو منطق قد يكون مقبولاً لو استطعنا إثبات أن الإسلام هو كذلك لم يدخل في محور الخلاف، بل إننا نجد الخلاف بين المسلمين أنفسهم أعمق من الخلاف بينهم وبين أتباع الأديان الأخرى، مما يدفعنا للعودة إلى السؤال ذاته، وهو عن سبب الخلاف في مصدر واحد ونص واحد.

لن نكون قادرين على فهم هذه الحالة إلا إذا ميّزنا تمييزاً تاماً غير قابل للشك بين الدين بوصفه نصاً لغوياً محايداً، والتدين بأنه فهمٌ وانحياز إلى أدوات التحليل ومعطياته وظروفه، وأن ما يحصل اليوم من صراع وقتال ودماء مصدرها الالتباس بين حالتي الدين والتدين، إذ ترى كل فرقة وكل طائفة أن طريقتها في التعامل مع الدين وفهمها للنص هي الدين ذاته، وأن ما عداها باطل وكاذب ومن ثم كافر يجب قتله، لأنه يخالف الدين المفترض في أذهانهم.

يمكننا التفريق بين الدين والتدين بأن الأول هو ما يريده الله والثاني ما يريده الإنسان، فالأول يعبر عن معنى غيبي بعيد، والثاني يعبر عن معنى واقعي قريب، وما بين إرادة الله ورغبته وإرادة الإنسان ورغباته بون شاسع قد لا نعرف حدوده.

تبدأ المشكلة حين يصل المتدين إلى حالة الالتباس بينه وبين الله في التعبير عن رغباته وطموحاته، ويعتقد بأن ما يقوم به يمثل ما يريد الله بشكل تام ومتطابق، ويصبح غير قادر على التمييز بينه وبين الله، فيتحول إلى ممثل للحقيقة، وحارس لحق الله، وظله، وسوطه، وعذابه، ويسمح لنفسه بسلب حياة الناس والحكم عليهم ومحاكمتهم وقطع رؤوسهم، تحت يافطة مكتوب عليها (لا إله إلا الله)، فهو لا يقوم بالعمل من تلقاء نفسه، بل هي أوامر تأتيه من السماء آناء الليل وأطراف النهار، وهو المطيع الذي يطلب الأجر على أعماله.

لم يعد خافياً، اليوم، أن التدين تحول من حالة حوار ونقاش حول النص إلى حالة تلبس به، وأنه تحول من كونه فهماً اجتهادياً إلى كونه مقدساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبمعنى أكثر دقة لقد نصّب المتدين نفسه إلهاً ينطق بالحق وبسلك طريقه من دون أن يكون لديه أدنى شك بخطأ فهمه. وما يحصل من صراع طائفي ومذهبي واقتتال ودماء ما هو إلا تعبير عن حالة الالتباس تلك، وعلينا أن نعترف أن التدين الإسلامي هو الذي يمارس حالة الالتباس تلك بشكل كبير في العالم، وأن المسلمين هم الأكثر خلطاً بين الدين والتدين، وأن الصراع بينهم يأخذ أشكالا أكثر دموية، فإذا كان جميع المسلمين يعتقدون بشكل نظري أن دينهم صحيح وغير محرف، فلماذا كل هذا الصراع إذن؟

إته صراع مستفحل متعمق لا يمكن حله، لأن الشعور بامتلاك الحقيقة الإلهية يعطي صاحبها الشعور بالثقة بما يعتقد، ويصبح غير قادر على سماع الآخر أو التحاور معه، أو تغيير رأيه، أو حتى زحزحة أفكاره، ومن هنا فنحن بحاجة إلى مناهج نقدية علمية تكون قادرة على تفكيك مفهوم التدين وتحويله إلى حالة إنسانية، وفردية، وشخصية، للإنسان الحق في السير بما يراه دون إكراه، ليصبح التدين حقاً ذا خصوصية تعتمد على اختلاف الناس وطبائعهم وثقافاتهم، ومن ثم فصل الدين عن التدين وفصل الإنسان عن الله.

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك