ظهر في الإعلام، منذ سنوات، مجموعة من الدعاة، شغلوا الفضائيات الدينية والرسمية –أيضاً- بطرق جديدة للدعوة؛ لباسٌ أنيق، وشكلٌ على أحدث الطرز الإعلامية، إذ يلبسون بذلة وربطة عنق أنيقة بألوان زاهية، أو يلبسون بنطلون جينز و(تي شيرت)، وتجهز لهم الفضائيات استوديوهات للتصوير على غرار البرامج التلفزيونية المشهورة لمسابقات الغناء وعرض الأزياء، باستخدام أحدث التقنيات والمؤثرات الصوتية واللونية، ويتكلمون لغة بسيطة قريبة من لغة الشارع، وبعضهم أحياناً يتلفظ عباراتٍ يستخدمها الشباب في جلساتهم الخاصة. وكل ذلك لتغيير نمطية الخطاب الديني، من أجل تحسين صورة الإسلام وتقريبه من الشباب ومواكبة التطورات التكنولوجية في عالم الصورة والإعلام الجديد.
لا بأس في ذلك. فالأفضل لنا أن نواكب العصر ونفيد من التطور الحاصل فيه، ونستخدم الإمكانيات كافةً لنشر الفكر والمعرفة، لكن المشكلة أن هؤلاء الدعاة قد جددوا المظاهر وغفلوا عن المضمون، فتجد أحدهم شاباً وسيماً، يرتدي نوعاً فاخراً من الملابس، ويتكلم لغة بسيطة ويبتسم، ويتحدث بطريقة مسلية ومشوقة مع نكت وطرائف (خفيفة دم)، ومضمون كلامه لا يختلف عن ذلك الشيخ الذي يلبس الدشداش القصير ويطلق لحيته، ويتكلم ويصرخ وهو معبس، لأن الضحك يميت القلب. فالنص واحد والتفسير واحد والقصص والخرافات هي نفسها، والتفكير نفسه، والتحليل صورة طبق الأصل، فما الفرق؟
إن الحديث عن تجديد الخطاب الديني لدى الدعاة الجدد والفضائيات هو حديث تنقصه الرؤية والهدف، فهو في أغلبه بحث عن النجومية والربح من دون النظر إلى أهدافه وغاياته وتأثيراته على المجتمع، وقدرته على التغيير، فقد كانت النتيجة تحويل التدين إلى حالة سطحية شكلية، ومن ثم تحويل مظاهر التدين إلى سلع قابلة للاستهلاك والموضة ومتطلبات السوق من دون بناء أي منهج فكري جديد يتناسب مع متطلبات العصر ومتغيراته، ومن غير أن يؤسس لقواعد كلية بمرجعية إسلامية تساعد الشباب على التفكير والإبداع والحوار والمشاركة في الإنتاج الفكري الإنساني.
لقد بقي الخطاب الديني لدى الدعاة الجدد – رغم حداثة شكله- مسكوناً بالماضي، ومرتهناً للتراث، ومعتمداً على مقولات جامدة، ونصوص واجتهادات من زمن آخر، بل إن أغلب ما يقدمه هؤلاء ليس له أي قيمة فكرية تساعد الشباب على الخروج من حالة الكسل الذهني إلى مقارعة الفكر والحوار وتقديم الرأي، لأن كل ما يقال لا يتعدى كونه قصصاً مسلية تخاطب المشاعر، وتقدم مسوغات للركون للقدر، والاستكانة للزمن والرضى بالقدر، وتقدم أبطال هذه القصص على أنهم نماذج متخيلة مثالية لا تخطئ ولا تحزن ولا تتعب ولا تغضب، وتقدم أعمالهم على أنها جائزة من الله نالوها بنواياهم الصالحة، وليس بجهدهم ومثابرتهم.
وكل ما يقدّمه الدعاة الجدد يؤدي إلى أن يصبح الشاب حالماً واهماً، ويعتقد أن بضع كلمات من التسبيح والتحميد والتهليل قد تجعله عالماً ومفكراً ومجتهداً، وبطلاً خارقاً يدخل الجنة بلا حساب، بعيداً عن الواقع ومعطياته والأسباب ومسبباتها، فقصص الأنبياء والصحابة والتابعين ليست من هذا العالم، بل هي معجزات أجراها الله على أيديهم، لأنهم صالحون لا ينتمون إلى هذا العالم السفلي الذي نتصارع نحن فيه على حطام الدنيا! أليست فكرة البطولة في هذه القصص حالة من تجاوز الواقع والهروب منه نحو عالم مثالي متخيل؟
إن أغلب ما يقدمه الدعاة الجدد لا يتعدى كونه قصصاً تمجد الماضي، وتلعن الحاضر والمستقبل، وتعلي من شأن السابقين وتحط من شأن الحاضرين، وتحيي الموتى وتقتل الأحياء، وتذكر الماضي على أنه المثال الأوفى للحياة، ولا تقدم حلولاً للحاضر الذي نعيش، ولا للمستقبل الذي نطمح إليه. وأعتقد أن الحديث عن رئيس وزراء الصين الذي يحكم مليار ونصف مليار شخص سيقدم نموذجاً في الإدارة الحالية أكثر من الحديث عن أن عمر بن الخطاب كان يحمل كيس الطحين على ظهره لإطعام امرأة جائعة، فقد كانت تلك الحالة مناسبة لذلك الزمن، أما اليوم فلا نريد من الحاكم أن يحمل كيساً على ظهره، لأن ذلك غير ممكن، بل نريده أن يحكم بالقانون والعدل ويحارب الفساد، ويشجع التعليم، ويبني المصانع والمدارس والجامعات، وأن يحافظ على مؤسسات الدولة ويحترم قراراتها.
إننا نريد أن نعيش بثوب الحاضر وعقلية الماضي، فكيف يكون ذلك؟ إنه فصام الشخصية الذي نعاني منه، وقد عمقه الدعاة الجدد حين قدم لهم الإعلام المنابر، فلبسوا الحداثة على جسد موغل في التاريخ، متهالك لا يصلح للحاضر، ولا يصمد أمام تحديات المستقبل.
إن تجدبد شكل الخطاب الديني لن يحدث فرقاً من دون الغوص في أعماق الفكر الديني وتفكيكه والتحاور معه ونقده، بمنهج تحليلي نقدي لا بمنهج تقليدي وضعي، وبغير ذلك فإن ما يقدمه الدعاة الجدد سيحولنا من حالة الكسل بسبب جهل الماضي إلى حالة أشد كسلاً بسبب عدم قدرتنا على تجاوز الماضي.
يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.