الحقيقة والمجاز

الحقيقة والمجاز
الرابط المختصر

ليس كلّ ما نريد قوله نستطيع أن نقوله ببساطة، ومن يظنّ أنّ الأدباء يقولون أكثر من غيرهم، أو يعبّرون أكثر من غيرهم فهو مخطئ، إنّهم أبلغ، وأبرع في التصوير فحسب، ففي الحين الذي يمكن فيه لغير الكاتب أن يصرّح  بأنّه يحبّ، أو يكره، أو ينزعج، أو يشمئزّ، بمنتهى البساطة، يعيش الكاتب معاناة، وصراعاً مع كلّ من اللّغة والخيال، فيكتب قصيدة، أو قصّة، أو يضيف انفعاله إلى شخصيّته الروائيّة، ثمّ يتحوّل إلى شخصٍ مقنّعٍ، بحكم التعوّد، فيختفي وراء شخوصه، ويحتكر مشاعره العفويّة والآنيّة من أجل الكتابة، ويصير بخيلاً في تعبيره اليوميّ، فلا ينتقد الناس، ولا يعاتبهم، ويسمّي ذلك نبلاً، ولا يغضب من المسيئين، فيسمّي ذلك تعالياً على الصغائر، ولا يشكو حين يتألّم أو يمرض، إنّه يدّخر ذلك كلّه للكتابة، ولا يعلن مواقفه السياسيّة بوضوح، مؤثراً أن يحوّلها إلى قصةٍ، أو حدثٍ في رواية.

إنّ الكتابة الإبداعيّة مجموعة استعارات، والاستعارة نوع من المجاز، والمجاز عكس الحقيقة، وكلّما حرصنا على المجاز ابتعدنا عن الحقيقة، ونبتعد عنها أكثر مع  نضوج التجربة الفنيّة، لنفقد بعد قليل عواطفنا تجاه الآخرين، وتجاه العالم وأشيائه، ونمتلك وجهات نظر عنهم، بدلاً من ذلك، وفي الواقع تكون وجهات نظر مفارقة للسائد، كما نصير أكثر حرصاً في الكلام، لكنّنا أشجع في اللّغة المكتوبة، إلى درجة أنّنا قد نشكّل صدمة للمتلقّين عندما يجدون كلامنا لا يشبه كثيراً لغتنا. ذلك كلّه نتاج التدريبات العقليّة التي أفقدتنا البراءة، وجسارة القول اليوميّ، فيحسب الآخرون أنّ ذاك جبن في المواقف، لكنّه في الحقيقة ادّخار من أجل الكتابة. ففي حين يستطيع أصدقاؤنا الصحفيّون أن يستحسنوا، ويستقبحوا، ويشجبوا بمقال، نحتاج نحن إلى رواية لنقول ذلك! لقد احتاج "توفيق صايغ" إلى أن يكتب "سيكولوجيا رجعيّة"، قصيدة نثر في غاية التكثيف، ليقول إنّه سئم من الحداثة، لكنّ جارنا الطبيب يقول لامرأة إنّه يحبّها بالجرأة نفسها التي يقول لها فيها إنّها مصابة بمرض قاتل!

يبدأ الشعراء بكتابة القصائد ليعبّروا عن غضبهم، أو كرههم، أو حبّهم، بعد ذلك يستعبدهم الشعر، ويلهثون خلف المجاز، ويكتبون من أجل القصيدة ذاتها، وكلّما علت شعريّتهم، وسما مجازهم، تقدّموا أدبيّاً. لكنّني  أحبّ "طرفة بن العبد" على الرغم من أنّ صورة "لبيد" أنضج، وأكثر عبقريّة. "لبيد" يغرقك في بحر، و "طرفة" يهزّك كصاعقة، لبراءته، ولشجاعته، ولقوله الحقيقة، كالطفل أو كالمجنون، لأنّ الحقيقيّ هنا هو الصادق من وجهة نظر قائله، ولعلّ الشاهد على ذلك أبياته الشهيرة في المعلّقة، التي يعجب فيها بما سمّاه "يوم الدجن"، إذ يقول:

ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى... وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي

فمنهنّ سبقي العاذلاتِ بشربةٍ... كُميت، متى ما تُعلَ بالماءِ، تزبدِ

...

وتقصير يوم الدجنِ، والدجنُ معجِبٌ... ببهكنة تحت الخباء المعمّدِ

لقد جعل "يوم الدجن"، اليوم البارد الممطر، والمسودّ من الغيم، أحسن أيامه، بل جعله سبباً من أسباب ثلاثة لتمسّكه بالحياة، ولاشكّ في أنّ هذا اليوم طويل في الصحراء، حيث لا يمكنك أن تفعل شيئاً سوى المكوث في الخيمة، لكنّ "طرفة" يقصّره بشريكة تحت غطائه، غضّة الشباب والجسد، ومرحة! كلام يشبه الأغاني الشعبيّة، التي يحبّها الجميع لأنّها مشتركة، والمشترك محمود لأنّه يُشعر بالأُلفة، والأليف صورة من صور الجميل.

هكذا قالها "طرفة" بوضوحٍ وصراحةٍ، إنّه مولع بيوم الدجن لا للسقيا، ولا للرعي، ولا للربح، ولا للرزق، ولا للدعاء، بل لشأن مختلف تماماً، لن ندرك ماهيّته إذا قرأنا النصّ في يوم مشمس! فهل يستطيع شاعر حداثيّ أن يقول: أيّتها السماء احبسي مطركِ، لقد غرق اللاجئون في الخيام!؟ طبعاً لا، سيضطرّ لصناعة صورة، ولاءً للمجاز، وتفادياً لسخط المتلقّين، الذين سيتهمونه بجحود النعمة، وبأنه سبب انحباس المطر في الأيام القادمات، وقد يصنع نصّاً مثل نصّ محمود درويش "فكّر بغيرك"، فيكون مستعدّاً لمغبّة التأويلات:

(من تقصد بكلمة "غيرك"؟)! لو كان "درويش" يريد أن يقول لك من يقصد، لما كتب القصيدة، تماماً كما يُسأل الروائيّ: (روايتك عن ماذا؟)!، فلو كان يستطيع إجابتك، لما كتبها، وأعتقد أنّ أفضل جواب في هذه الحالة هو: عن الحياة طبعاً!

إنّ حرصنا على المجاز يعني حرصنا على أنفسنا، بوصفنا كتّاباً، وعلى مكتسباتنا، وحياتنا، وأمننا، وأولادنا، وكلّما حاصرنا "التابو" أولعنا بالمجاز، وتعقّدت صورة الشاعر، وبعُدت المسافة بين طرفيها، وتثقّفت، وتعدّدت شخصيّات الروائيّ، وزدادتا شظاياه، وعلت أدبيّة الأدب الذي يكتبه، وصار بحاجة إلى متلقّ أنضج، وأوسع ثقافة.

إنّ الذين ينعمون بسهولة الكلام، فيواجهون "التابو" بقولٍ حادٍّ ومباشرٍ، يصرّحون ولا يصوّرون، لكنّهم يخرجون من عالم الأدب، إلى عالمٍ غير أدبيّ، وفي حين يقول أهل الشعر: أعذب الشعر أكذبُه، يقول الفلاسفة: لا شيء أجمل من الحقيقة.

 

·        د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية "عين الهرّ" الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و"سجّاد عجميّ".