"الجدار الحديدي"

إذا أراد العرب أن يفهموا ما هي صفقة القرن ومن أين أتت وما ينبغي أن يفعلوا حيالها، عليهم أولاً أن يقرأوا تاريخ أعدائهم، وتحديداً المقالة التي كتبها القيادي الصهيوني "زييف فلاديمير جابوتينسكي" سنة 1923 بعنوان "الجدار الحديدي"...   جابوتينسكي كان أكثر مفكري الصهاينة واقعية وصراحة، فكتب قبل حوالي قرن من الزمان نظريته التي أصبحت عقيدة ونبراس ومرجعية قادة إسرائيل من بن غوريون مروراً ببيغن وشامير ووصولاً إلى نتنياهو في يومنا هذا، ولكن أكثر العرب لا يقرأون…   يقر جابوتينسكي في مقاله المفصلي في تاريخ الحركة الصهيونية بأن العرب هم أصحاب الأرض الأصليين، ولذلك فإنه من الطبيعي والمتوقع حتماً أنهم سيرفضون مشاركة أرضهم مع الغرباء، وأنهم سيحاربون هجرة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم هناك بكل ما يملكونه من عنفوان ومن تمسك بأرض أجدادهم المعروف عنهم، ذلك لأن العرب، كغيرهم من الشعوب على مر التاريخ في اعتقاد جابوتينسكي، يستحيل أن يتقبلوا احتلالهم واستعمارهم برضاهم وموافقتهم، بل إنه من ضروب السذاجة الطفولية أن يتوقع اليهود غير ذلك…     جابوتينسكي كان واقعياً وصريحاً لدرجة أنه اتهم أقرانه الصهاينة الذين كانوا يؤمنون بالتعايش السلمي مع العرب في ذلك الوقت بالعنصرية تجاه الجنس العربي، لأنهم بذلك الاعتقاد الأبله هم في الحقيقة يزدرون العرب بتصويرهم بأنهم يختلفون عن باقي البشر، وبأنهم يمكن أن يتخلوا عن أرضهم بسهولة بواسطة الإغراءات المادية وإبرام الصفقات فيهرعون لمعانقة محتليهم ومشاركتهم بيوتهم ومزارعهم بصدر رحب…     وبالتالي فإن جابوتينسكي "بق البحصة" آنذاك عندما أرسى أهم المبادئ البراجماتية التي سارت عليها الحركة الصهيونية منذ سنة 1923، وهي العمل على تأسيس دولة قوية تتفوق على العرب عسكرياً وتسحقهم وتخضعهم من داخل "جدار حديدي" لا يمكن اختراقه أو المساس به، وأن ينصرف جهد الصهاينة فقط على بناء وترسيخ هذه القوة العسكرية الماحقة في المنطقة، إلى أن يقتنع العرب كلياً بأنه من العبث والمستحيل أن يتغلبوا على هذا المارد الجبار، فيضطروا إلى الخنوع والاستسلام مرغمين قهراً عن طريق القوة والغلبة والإجبار القسري…     ولذلك، فإن أهم مرجع في رأيي ينبغي الالتفات له هذه الأيام هو كتاب "آفي شلايم" المنشور عام 2000 (في الصورة)، والذي يحمل نفس إسم مقالة جابوتينسكي، أي "الجدار الحديدي"...   في هذا الكتاب، يقوم شلايم بمراجعة تاريخ إسرائيل بأكمله وقراءته من جديد من منظور عقيدة الجدار الحديدي، حيث يتوصل الكاتب إلى نتيجة أن قادة إسرائيل – باستثناء اسحق رابين الذي تم اغتياله سنة 1995 – ولأنهم كانوا جميعهم من التلاميذ المتطرفين لمدرسة جابوتينسكي الواقعية، فإنهم في الحقيقة لم يرغبوا يوماً أو يحاولوا في طرح حل جدي للصراع في فلسطين، بل أنهم كانوا يتعمدون تقديم كل طروحات التسوية ومبادرات السلام سواء مع الأمريكان أو مع غيرهم وهم متيقنون سلفاً باستحالة قبولها من الطرف الآخر، وبذلك لا يبقى سوى الحل العسكري والواقع على الأرض بفضل قوة الجدار الحديدي…     حتى أن شلايم ذهب في كتابه إلى أن هؤلاء القادة اليمينيين أساؤوا فهم جابوتينسكي، فالكاتب يعتقد أن النظرية الأصلية كانت ترى في الجدار الحديدي مجرد فترة مرحلية انتقالية حتى يتم بناء القلعة اليهودية المحصّنة، ثم يأتي بعدها السلام والتعايش مع أصحاب الأرض قسراً لا رضاءاً، ولكن أمثال اسحق شامير وبنيامين نتنياهو قد استساغوا تحريف تلك النظرية لتصبح عقيدة الصراع الدائم والنزاع الأبدي وتفادي أي نوع من أنواع الحلول السلمية بشكل أزلي ومتواصل إلى أن يرث الله الأرض وما عليها... ولذلك أقول لكم اطمئنوا ولا تقلقوا، فأنا أجزم وأكاد أن أقسم لكم أن صفقة القرن لن تمر ولا في سابع المستحيلات، ليس بسبب صلابة العرب المنبطحين كالنعاج الخائفة أو أي شيء من هذا القبيل، وإنما لأن الشخص الذي سيجند كل طاقاته ويحارب بكل قوته ويوظف علاقاته ورصيده السياسي لكي يضمن إفشال صفقة القرن هو نتنياهو بنفسه... نتنياهو سيفعل ذلك ليس لأن هذه الصفقة منصفة للفلسطينيين أو لأن فيها أي بند يزعج إسرائيل، وإنما لأن العقلية الصهيونية اليوم لا يمكن أن تقبل بأي نوع من أنواع الصفقات المنهية للحروب إذا كان سينتج عنها اتفاق سلام ينهي حالة النزاع ويزيل حالة التحارب الدائم، حتى لو كانت هذه الصفقة مجحفة لأصحاب الأرض وفي صالح الدولة العبرية كليا قلباً وقالباً كما هي خطة جاريد كوشنير اليوم... كيف سيفشلها نتنياهو؟ بكل بساطة، سيفصلها هو تفصيلاً بيده ويكتب بنودها بنفسه لكي يجعلها مهينة ومذلة وغير واقعية ولا تحقق أدنى تطلعات الشعب الفلسطيني لدرجة أن يلفظها ويرفضها حتى أكثر العرب خنوعاً وأعظمهم خيانةً وأسفلهم أخلاقاً، وعندها سيقول للعالم، أرأيتم، العرب يرفضون السلام كعادتهم، فيعود ليتقوقع داخل الجدار الحديدي... للأسف أقولها، إلا أن هذه الدولة العنصرية لا تفهم سوى لغة القوة ولم تتعامل مع العرب منذ 1948 سوى بتلك اللغة، وبالتالي فهي لن تمنحكم يوماً من الاستقرار أو تعيد لكم شبراً من الأرض أو تفرج لكم عن سجين في الأسر إلا بلغة القوة، ولا شيء غير القوة، وإذا لم يستيقظ العرب من سباتهم ومن هوانهم ومن ضعفهم ومن تفرقهم ومن تشرذمهم وينهضوا نحو الاستقلال الحقيقي وامتلاك القوة، سنظل أذلاء مستعبدين مركوبين إلى يوم القيامة...    

أضف تعليقك