التلفزيون الأردني: محاربة التطرف بالتطرف

التلفزيون الأردني: محاربة التطرف بالتطرف
الرابط المختصر

 

يلاحظ المتابع لبرامج التلفزيون الأردني، في الأشهر الأخيرة، كثافة البرامج الدينية التي يبثها، وذلك –كما أعتقد- حسب خطة إعلامية لمكافحة الفكر المتطرف بعد صعود الحركات الإسلامية الجهادية، وبروزها بوصفها قوة فاعلة في الصراعات التي تدور في المنطقة، وقدرتها على توظيف الشباب والتأثير عليهم فكريا وسلوكيا. ولابد من الإشارة هنا إلى أن المجتمع الأردني أصبح من أهم المجتمعات الحاضنة للفكر المتطرف، وأن لدينا أكثر من 2000 شخص يحاربون في صفوف داعش وجبهة النصرة وغيرها من الفرق المحاربة في سوريا والعراق، مما يعني بالفعل أننا بحاجة لإجراء مراجعات فكرية ونقدية لمناهجنا وكتبنا ومصادرنا الدينية والاجتماعية أيضا.

 

أما وجه الاعتراض على هذه البرامج فليس في وجودها وكثافتها وعددها، لكن في مضمونها وطريقتها، إذ إن المستمع لمثل هذه البرامج لا يجد فرقا بين خطابها وخطاب أي فرقة أو مجموعة أو حزب ممن يقومون على أصول دينية وعقائدية، فكلها تصدر عن طريقة واحدة في التفكير، ودرجة التطرف أو الاعتدال فيها لا تعتمد على مضمونها وطريقة التفكير فيها، بل على الظرف الذي تقال فيه، وطبيعة الشخص الذي يقولها وظروفه ومصالحه، وإن الفرق بين الدكتور فلان وأبو بكر البغدادي هو في طريقة اللباس، فهذا يلبس بذلة وربطة عنق ولحية قصيرة، وذاك يلبس دشداش وعمامة ولحية طويلة، وربما يعتقد مخرجو التلفزيون الأردني أن اللباس الجميل والحداثي هو تعبير عن فكر تنويري يريدون إيصاله للناس، ولا يتنبهون إلى أن مضمون الخطاب لا علاقة له باللباس ولا بديكورات استوديو التصوير.

 

إن الخطاب الديني في برامج التلفزيون الأردني هو خطاب سلفي تراثي كما هو خطاب الجماعات الدينية التي يتهمونها بالتطرف، والتي يريدون لهذه البرامج أن تحارب فكرها، ولذا فإن هذه البرامج – في اعتقادي- تقدم خدمة جليلة لهذه الجماعات من حيث لا تدري، فهي تبث أفكارهم وتدفع الأموال من أجل ذلك، وعلى مدى ساعات طويلة من البث التلفزيوني، وفي تلفزيون رسمي تموله حكومة المملكة الأردنية الهاشمية، وتدفع عليه من ضرائب الناس، لتعيد لهم إنتاج الخطاب المتطرف بطريقة أكثر جمالا وزينة! فأين الفرق؟

 

إنه خطاب سلفي يريد أن يرد على داعش (حديثا بحديث)، يعني هم يستخدمون أحاديث لتبرير أفعالهم ونحن نرد عليهم بحديث لإظهار خطئهم، وقد يكون حديثهم أكثر صحة، ورواه الشيخان، فأين وجه الحجة في قولنا إذا؟ ويريدون أن يردوا عليهم بقصص الصحابة والتابعين، وأنهم كانوا يدعون للتسامح والتعايش المشترك، لكن من جهة أخرى فتاريخنا وتراثنا مليء بالقتل والدم والصراعات السياسية والدينية والفرق والملل، ويريدون أن يردوا عليهم بالتفسيرات القرآنية لأيات الجهاد والقتال ومحاربة الكفار وقتل المرتدين وإقامة دين الله على الأرض، وهي عند الحركات القتالية أكثر وضوحا ولا تحتاج إلى تأويل، بل الأكثر مشكلة أن تفسيرات الآيات القرانية تملك من المعاني الممتدة في الزمان والمكان ما لا يمكن الإحاطة به، وكل حزب بما لديهم فرحون.

 

لذا فالسؤال الذي يبدو ملحا وضروريا عن هذه البرامج وقيمتها ونتائجها، والفرق بين ما يؤمن به من يقدمونها وما يؤمن به من نريد محاربة فكرهم. فهل يؤمن مقدمو البرامج الدينية في التلفزيون الأردني بسلطان العقل؟ وهل يؤمنون بالحرية الدينية؟ وهل يؤمنون بدولة مدنية لكل المواطنين؟ هل يؤمنون بأن الجزية قضية سياسية عسكرية وليست دينية؟ وهل يؤمنون بأن الردة قضية سياسية تتعارض مع مبدأ حرية الاختيار الديني؟ وهل يؤمنون أن الحرية هي أهم مطلب إنساني؟ هل يؤمنون بحقوق المرأة في العمل والسفر والقرار؟ وهل يؤمنون بأن الدين للفرد وليس للسلطة؟ وهل يتنازلون عن إقامة حكم الله على الأرض؟ هل يؤمنون بالديموقراطية والمواطنة والحقوق الفردية؟ هل يؤمنون باستخدام العقل في الحكم على النصوص الدينية؟

 

وهل يؤمنون بنقد الفكر الديني والنصوص الدينية؟ وهل يؤمنون بأن الحديث كتب بعد 150 سنة من موت النبي محمد عليه السلام وأنه لا يصلح لأن يكون مبدأ للتشريع؟ وهل يؤمنون بأن المصالح الكلية للأمة مقدمة على الفروع؟ بل هل يؤمنون بالإنسان بوصفه الهدف من الشرائع، وأنه مقدم على المعتقدات والتشريعات والنصوص؟ وهل يؤمنون بأن أغلب المسائل الفقهية محكومة للزمان والمكان، وأنها تتغير بتغير الزمان والمكان؟ وهل يؤمنون أن فقه القرن الثالث الهجري لا يصلح للقرن الواحد والعشرين؟

 

إذا كانوا يؤمنون بكل ذلك فيمكن لهم أن يحاربوا الفكر المتطرف، لكن إذا كانوا هم أكثر إيمانا بكل هذه الأفكار من داعش وغيرها فلن يستطيعوا محاربتها، لأنني أعتقد جازما أن داعش لديها اجتهادات فقهية في الأحكام التراثية تفوق من يريدون محاربة تطرفها، وعندها القدرة على الخروج عن كثير من الأحكام التي لا يملكها من يريدون محاربة تطرفها، فكيف للأقل أن يكون مقنعا أكثر من الأعلى؟ لذا أعتقد أن إلغاء البرامج الدينية من التلفزيون الأردني سيخدم محاربة التطرف أكثر من وجودها.

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك