يذكر الطبري أن أبا جعفر المنصور خطب بالمدائن عند قتل أبي مسلم الخراساني، فقال: "أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تُسرّوا غش الأئمة فإنه لم يُسرّ أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه وأبداها الله لإمامه بإعزاز دينه وإعلاء حقه، إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم، إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد".
لا علاقة لتلك الخطبة بالموضوع الذي أكتب عنه، لكن عند النظر من طرف خفي فإن تحذيره الخروج من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ربما يشير إلى نمط تعليمي نمارسه وتمارسه السلطة على التلاميذ في المدارس والجامعات، فالمطلوب من الطالب أن يكون مطيعاً صامتاً حافظاً مقلداً عبداً، على قاعدة "من علمني حرفاً كنت له عبداً"، لا يسأل كثيراً ولا يعترض على ما يقوله أستاذه، ولا يناقش ولا ينتقد، نريده آلة تسجيل ليفرغ ما حفظه ساعة الامتحان. لقد كان لنا أستاذ في الجامعة يحاسبنا في الامتحان على أي تغيير عما قاله لنا في المحاضرة، وكانت قولته المشهورة لنا: "يا بني ردَّ عليّ بضاعتي"، فكان المطلوب منا لنحصل على علامة ممتازة أن نردد كل ما قاله بوصفه نهاية العلم ومبتغى المتعلمين.
أستطيع أن أصف أغلب التعليم الذي يتلقاه الطلبة في بلادنا من نوع تعليم الطاعة والإذعان، دون الحصول على حقوقهم في النقد والاعتراض والتمرد على النمط السائد، ولذا يتعلم الطالب أن يعيش مستكينا في أنس الطاعة خوفاً من الخروج إلى وحشة التمرد، لأنه في الطاعة يحصل على رضى معلميه وثنائهم وإعجابهم، وفي التمرد يحظى بالتهميش والتأنيب والتأديب، لأننا نريد الطالب الذي يسمع كلام أستاذه كالعبد الذي يسمع كلام سيده، طالب يهز رأسه إعجابا كلما وصل صوت معلمه إلى مسامعه، طالب يحس أنه بلا شخصية أمام شخصية معلمه. إن أكثر ما يشكو منه المعلمون وأساتذة الجامعات وقاحة الطالب الذي يملك الشجاعة ليحاججهم، أو يعترض على معلوماتهم أو طريقتهم، إنه طالب قليل أدب، لا يرقى لأن يكون طالبا في الجامعة، على حد تعبيرهم، لكن في الحقيقة، هو لا يرقى أن يكون رأسا في هذا القطيع.
التعليم بحد ذاته حالة تمرد على الواقع والسائد والمتعارف عليه، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الإبداع، وإلا فما الفائدة من الحفاظ على الأمر الواقع، إن كنا كلنا نشكو من الواقع، لكن في الحقيقة لا أحد يسعى إلى تغييره، والدليل أن أي تفكير خارج المألوف يُقابل بالرفض والمقاومة والتكفير وربما القتل، فهذا المجتمع الذي يقاوم كل تغيير هو نفسه الذي يريد للطالب أن يكون مطيعا مذعنا يتنعم في أنس الطاعة، ويخشى أي دخول في وحشة التمرد وجحيمه، ثم هذا المجتمع هو نفسه الذي يطالب بتعليم جيد يتناسب مع متطلبات العصر ويُعلم الإبداع، فكيف يمكن أن يستقيم ذلك؟ لا يمكن لأي طالب أن يبدع إلا إذا كان متمردا على واقعه، وكيف يتمرد على واقعه دون أن يفهمه؟ وهنا تكمن المشكلة في التعليم المستكين الذي لا يسمح للمتعلم الخروج عن تقاليده.
يروي باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين" أن أحد الفلاحين البسطاء كان يوما يستمع لمحاوراتهم عن الكون والإنسان، فقاطعهم قائلا: لقد عرفت الآن أنه بدون الرجال فليس هناك عالَم. فردّ عليه أحد المُحاورين: لا، فلو افترضنا جدلا أن كل الرجال في هذا العالم قد ماتوا، ألا يبقى العالَم بأشجاره وطيوره وحيواناته وأنهاره وبحاره ونجومه؟ أفلا يكون كل هذا العالَم؟ فأجاب الفلاح بثقة: لا، لأنه لن يوجد حينها شخص ليقول: هذا هو العالًم.
لقد أدهشت هذه العبارة فريري، وجعلته يتبنى نظرية جديدة عن تعليم المقهورين، حيث يقول: إن عدم الإحساس بالعالم يعني عدم وجوده، فلِكيْ يعيش الإنسان ينبغي له أن يستشعر وجوده، وليحدث هذا فإنه بحاجة للتعليم الذي يكشف له عن ملكاته الإبداعية في فهم العالم ونقده وتطويره، وهو ما لا يحدث إلا من خلال عملية تعليمية تأخذ الطالب إلى العلم دون أن تقهره عليه، بل تكتفي فقط بسدّ الثغرة بين فهمه الخاص وبين المادة العلمية، ثم تترك له بعد ذلك المجال في الخيال والحوار والبحث، وهو الأمر الذي اعتراه القصور تارة، والغزو تارة، والمقاومة تارة أخرى.
إن أهم ما استنتجه فريري هو أن وظيفة التعليم هي خلق حالة إبداع في فهم العالم من خلال نقده وتطويره، وذلك من خلال عملية تأخذ الطالب إلى العلم ولا تقهره عليه، وتسعى إلى التوفيق بين فهمه الخاص والمادة العلمية، دون جعل هذه المادة العلمية وسيلة قهر ومحو لشخصيته وفهمه. ربما يمكننا القول إن طلابنا ونحن جميعا مقهورون على العلم وبالعلم، ولسنا مشاركين في بناء رؤية خاصة مبدعة نرى العالَم ونفهمه من خلالها. بمعنى آخر كيف يمكننا تشكيل رؤية خاصة للعالَم؟ من خلال التمرد على المألوف وما نراه بعيون الآخرين، بل متى يمكن أن يخرج التعليم من وحشة الطاعة إلى أُنس التمرد؟
يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.