التعليم للحياة

التعليم للحياة

تواجهنا عادة مقولات تشير إلى أن هناك مشكلة في تعامل المتعلمين مع الحياة ومتطلباتها، بل إن هناك من ينتقد كثيراً من المتعلمين لأنهم ليس لديهم القدرة على حل المشاكل التي تواجههم، ويظهرون كأنهم عاجزون عن توظيف تعليمهم لتحسين ظروف حياتهم وحياة من حولهم، ولذا فإنهم يوصفون بأنهم منفصلون عن الفكر الذي يحملونه، أو أنهم قادرون على حفظ المعلومات والمعارف دون القدرة على توظيفها في سلوكهم، وظروف معيشتهم وحياتهم.

تلك المقولات تحمل في ثناياها كثيراً من الحقيقة، إذ يبدو أن التعليم قد أخذ منحى تجريدياً معتمداً على حفظ المعلومات واكتساب المهارات الفنية، وغير مرتبط بالحياة ومتطلباتها، وانتشرت ظاهرة المتعلم الذي يحمل شهادة، وغابت ظاهرة المثقف الذي يفهم الحياة وما يمكن فعله من أجل تحسينها، والتغلّب على الصعاب فيها، ومساعدة المجتمع، وحل مشاكله من خلال توظيف الأساليب العلمية التي تعلمها.

من خلال ما نشاهده ونعاينه للعملية التعليمية في بلادنا، نلاحظ أن التعليم الحالي ليس على ارتباط وثيق وفاعل بالمجتمع والحياة، فهو يقدم المعرفة على شكل مواد دراسية منفصلة قد لا تلبي احتياجات المجتمع؛ وأن هناك فتوراً وضعفًا في العلاقة بين التعليم والمجتمع، ومن المفترض أن يكون التعليم عملية مندمجة بالحياة وأن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع، في ظل تضاعف إمكانات التعلم والتثقيف واكتساب المعرفة، كما يستلزم الحال أن يأخذ التعليم بخياره التربوي المرتكز على السلوك والقيم، ذلك لأن التربية هي القادرة على إعادة الدور الريادي للتعليم وتحقيق غاياته وأهدافه.

إننا لا نستطيع تطبيق نظرية مثالية لربط التعليم بالحياة، لأن ذلك معتمد على طبيعة الظروف المادية والمعنوية للمجتمع، وظروف البيئة والاستعداد النفسي أيضا، فهناك مثلا تجربة اليابان كما تقول الدكتورة معصومة إبراهيم بأن المنظومة التعليمية اليابانية أدركت أن عصب الحياة الحديثة هو التكنولوجيا، فجعلت هيكلها الرئيسي هو التعليم الفني الذي يخرِّج الصنّاع المهرة ذوي القدرة على إنتاج السلع التنافسية، الذين يديرون آلات المصانع ويتحكّمون فيها، فاليابان التي تعاني نقصاً شديداً في الموارد الطبيعية اللازمة لآلتها الصناعية العملاقة اعتمدت اعتماداً شبه كلي على التعويض بالموارد البشرية المدربة والمتعلّمة، ولتحقيق ذلك وضعت جملة من المبادئ  تقوم على المساواة بين الطلبة، ليس فقط في الحقوق والواجبات، بل أيضاً في القدرات والاستعدادات والذكاء، ومن ثم الارتكاز على قيمة الجد والمثابرة والصبر أكثر من الموهبة، لأن الموهبة مهما كانت درجة أهميتها لن تصل بصاحبها إلى التفوق من دون مزاوجتها مع قيمة العمل الدؤوب والحرص على مواصلة الاتقان حتى آخر لحظة.

لا ينظر العالم اليوم إلى التعليم من منطور كمي، فيحسبون عدد المدارس والجامعات والخريجين، بل المنظور الأهم هو مدى جدواه. وجدواه يُحسب من خلال قدرة هؤلاء المتعلمين على التعامل مع الواقع ومع ما يحيط بهم، مع الممتلكات والشوارع والمرافق والأشجار والحجارة والجبال والعمارات. فما الفائدة من مجتمع يحمل ثلثاه شهادة البكالوريوس وشوارعه غير صالحة للاستعمال؟ وما فائدة ذلك وبيئته تزداد فقراً وتصحراً؟ وما الفائدة والقيم تنعدم والسلوك يفقد قدرته على تنظيم حياتهم؟ وما الفائدة في مجتمع يحمل عشرات الالاف فيه شهادة الماجستير والدكتوراه ويتوه في مشاكل المياه والصرف الصحي وتنظيم الشوارع والعمارات غير القادرة على مواجهة الظروف؟ فضلاً عن المشاكل الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الدولة ومؤسساتها. فكيف نفهم العلاقة بين كمية الإنفاق على التعليم والمردود الذي يحصل عليه المجتمع بشكل عام؟ إننا هنا لا نستطيع اعتبار النجاحات الشخصية على مستوى الفرد نجاحا مهما ما لم يصاحبه نجاح على مستوى المجتمع.

لا بد من إعادة النظر فيما سرنا به خلال العقود الماضية في نظرية المعرفة القائمة على اكتساب المعلومات والمهارات لصالح نظرية التعليم المرتبط بالحياة والسلوك، فمجتمعاتنا – كما أعتقد – لا يمكنها الاستفادة من المعلومات في الوقت الذي تعاني فيه نقصاً في مهارات الحياة وتشوهات القيم، أي أن هناك حلقة مفقودة تم القفز عليها لمواكبة التطورات العالمية دون النظر لخصوصياتنا ومشاكلنا التي نعاني منها، وهي قاعدة السلوك المبني على المعرفة، فصرنا نملك المعلومة والمهارة ولا نعرف كيف نوظفها لتطوير حياتنا وأنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا.

لذلك نتساءل كيف نفهم سلوك شخص يحمل شهادات عليا، ويتصرف في لحظة ما بسلوك بدائي غير قابل للتفسير، ونتساءل كيف يمكن أن تحدث هذه الفوضى في الشوارع والنقل وحوادث السير والعنف والقذارة في المرافق العامة في مجتمع غالبيته إما أنهم يحملون شهادة جامعية وإما أنهم على مقاعد الدراسة؟

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك