التعليم المستهلِك

التعليم المستهلِك

كان التعليم في السابق مقتصراً على مجموعة من الناس، يختارونه طريقاً لحياتهم، ولمدة زمنية محدودة، ولم يكن متاحاً للجميع، أو لم يكن الجميع راغباً فيه لوجود مسارات عمل أخرى، يستطيع الفرد من خلالها المشاركة في الإنتاج، واكتساب الدخل الذي يوفر له الحياة، ضمن منظومة إنتاجية واقتصادية ينتهجها المجتمع، فكانت نسبة الذين يذهبون للمدارس قليلة، والمدة التي يقضونها في المدرسة قليلة أيضاً، ثم يكونون أعضاء مشاركين في عجلة الإنتاج.

في عقد الخمسينات وما بعده بدأ الاهتمام بالتعليم يزداد في الأردن، وذلك تماشياً مع ما حدث في العالم من تطوّر في النظر للتعليم بوصفه أحد أهم متطلبات التنمية وزيادة الإنتاج، ففي الستينات من القرن العشرين برز الاهتمام بـ"اقتصاديات التربية والتعليم" التي تدرس العلاقة بين التكاليف التي تنفقها الدولة والمجتمع على التعليم والمردود الذي يترتب عليه، على مستوى دخل الفرد، وعلى مستوى الدخل القومي، وبدأت الاتجاهات الجديدة في علم الاقتصاد تتناول دور التعليم في زيادة الدخل ودور الاستثمارات في التربية في تكوين رأس المال البشري إضافة إلى تصنيف الإنفاق على التربية بين الإنتاج والاستهلاك.

وظهرت دراسات في الموضوع، من بينها الدراسة التي أجراها دنيسون للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة في السنوات 1909 - 1929 و1929 - 1957 وبينت أن نحو 10% من النمو الاقتصادي في المدة بين 1909 و1929 يرجع إلى تحسين مستوى التعليم، وأن نحو 21% من النمو الحاصل في المدة من 1929 إلى 1957 يرجع إلى تأثير التعليم أيضاً. وعلى نفس النهج قام شولتز بدراسة بينت أن 20% من النمو الاقتصادي الحاصل في المدة من 1929 إلى 1957 في الولايات المتحدة يعود إلى تحسن مستوى التعليم.

لقد بدأ التفكير باقتصاد التعليم يأخذ أهمية عندما أصبحت الدولة تدفع تكاليف باهظة من أجله، وفي الأردن زاد الاهتمام بالتعليم وأصبح إلزامياً لمدة عشر سنوات، وشبه إلزامي للمرحلة الثانوية والجامعية، مما يعني أن الطالب يقضي أو 22 سنة من عمره بين المدرسة والجامعة، ويعني أيضاً أن هذا الشخص غير قادر على الإنتاج ولا يشارك فيه، فالتعليم عملية مكلفة تحتاج إلى أموال كثيرة لبناء المدارس والمعاهد والجامعات وتجهيزها، كما تحتاج إلى أجور المعلمين والإداريين، إضافة إلى أنها تتطلب اقتطاع زمن كبير من أعمار الطلبة والمتدربين يمضونه في التعليم بدلاً من صرفه في مجال الإنتاج مما يعد فرصة ضائعة يجب أخذها بالحسبان عند حساب تكاليف التعليم، وهو ما سماه شولتز «الكسب الضائع». في كتابه "القيمة الاقتصادية للتربية"، فإذا عرفنا أن عدد الطلاب في المدارس والجامعات يزيد على ثلاثة ملايين فهمنا أن ثلث المجتمع مستهلك وليس له عمل، وأن الثلثين الأخرين يعملون وينفقون أكثر من نصف دخولهم على ذلك الثلث. لذلك يصبح من الأهمية بمكان السؤال عن جدوى هذا التعليم إذا لم يكن له مردود أعلى من النفقات.

يتناول اقتصاد التعليم حساب تكاليف التعليم الإجمالية وحساب تكلفة الوحدة التعليمية، مثل الفرع الدراسي أو المرحلة أو الصف أو الشعبة وأحياناً تحسب تكلفة الفرد الواحد في المرحلة الواحدة أو طوال مدة الدراسة، كما يتناول اقتصاد التعليم البحث في أساليب تمويل التعليم، ومصادره وأعباء التعليم وتوزيعها بين الحكومة والمؤسسات العامة والخاصة وكذلك بين الآباء والطلبة.

لا أعتقد أن لدينا دراسات جدوى اقتصادية للتعليم، لكن بحسابات بسيطة غير دقيقة نقول: إن لدينا 650 ألف طالب ملتحق بالمدارس الخاصة حسب إحصائيات وزارة التربية والتعليم، وهناك ما يقارب 2 مليون في الحكومة، ولدينا 20 جامعة خاصة، يدرس فيها حوالي 150 ألف طالب، و10 جامعات حكومية يدرس فيها حوالي 200 ألف طالب، وبحسابات بسيطة يمكن حساب تكاليف التعليم لكل هؤلاء، فلو افترضنا مثلا أن الطالب في المدرسة الخاصة يدفع 1500 دينار سنويا في المتوسط، فإن مجمل التكاليف تقترب من المليار دينار، ولو افترضنا أن الطالب يدفع في الجامعة الخاصة ما متوسطه 3000 دينار سنوياً، فإن مجموع التكاليف تقترب من نصف مليار دينار، وأن الطالب في الجامعات الحكومية يكلف نفس القيمة سنويا فإن المبلغ يكون 600 مليون دينار سنويا، وإذا كانت وزارة التربية والتعليم تنفق بحسب ميزانيتها ما يقارب مليار ونصف، فإن مجموع الإنفاق يكون 3 ونصف مليار (3500000000)، وهذا غير النفقات الأخرى التي ينفقها الأهل على أبنائهم من احتياجات مدرسية وجهد تدريسي ومراكز تقوية وأنشطة وأندية، ونستطيع أن نقول بحسب ما قدمنا أن هذا المبلغ يصل إلى أكثر من 5 مليار دينار سنوياً، وإذا أخذنا بالحسبان الوقت الضائع للطالب على مقاعد الدراسة بدون إنتاج فإن المبلغ يتضاعف. والسؤال هنا: هل يصل مردود التعليم إلى 10 مليار سنويا؟ إذا كان لا يصل ولا أعتقد أنه يصل إلى ربع هذا المبلغ فإن التعليم يكون خسارة فادحة.

هناك دراسات أجريت على البلدان النامية توصلت إلى أن دور التعليم في النمو الاقتصادي كان ثانوياً، ورأت بعضها إلى نفي أي دور للتعليم في التنمية الاقتصادية، وعلى العكس من ذلك فقد وجدت بعض الدراسات أن الإنفاق الكثيف على التعليم قد يسهم في الإبقاء على التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وهي ترد ذلك الخطأ الذي تقع فيه نظم التعليم عندما تتوسع في التعليم الثانوي والعالي. ولا أعتقد أننا في الأردن نمتلك أي دراسة أو رؤية عن جدوى التعليم وما ينفق عليه، وماذا لو انفقت هذه المبالغ في مسارات إنتاجية أخرى؟

المطلوب بالفعل دراسة النفقات المصروفة على التعليم، ودراسات المردود الفعلي من الناحية المالية والثقافية، لأنه لا يمكن لنا إهمال أثر التعليم في رفع المستوى الثقافي وزيادة الخبرة وتوسيع أفق المتعلمين، مما يؤدي إلى تحسين فرص الرخاء ورفع مستوى المعيشة وتخفيض معدلات الجريمة، ورفع مستوى الانضباط والتقيد بسيادة القانون وتنمية حس الانتماء الوطني والقومي والإنساني. وبغير المعرفة الدقيقة لهذه الجدوى فإن التعليم يبقى عشوائياً، تتقاذفه الأهواء، ويستغله رأس المال، ويصبح عبئا على الأهل والمجتمع والدولة.

 

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.

أضف تعليقك