التحريض على المقاطعة!
الحكومة, على ما أعلن رئيسها, لا تجبر أحدا على التصويت; وتلك فضيلة حكومية كفضيلة عدم ارتكاب آدم لإثم الخيانة الزوجية, فكيف له أن يخون حواء ولم يكن من وجود لأمرأة غيرها?!
وكيف للحكومة أن تجبر المواطنين, أو مواطنين, على التصويت وهي لا تستطيع إلى ذلك سبيلا; وإن كل فعل حميد يأتي من طريق الاضطرار, أو ينعدم في أمر الإقدام عليه كل ما يمكن أن يجعله ثمرة اختيار, ليس من الفضيلة في شيء.
أما الغرض أو القصد الكامن في هذا القول الحكومي فهو تبرير ما أظهرته الحكومة من عداء للداعين المواطنين, أو الناخبين, إلى مقاطعة الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها في التاسع من تشرين الثاني المقبل, والذين تصورهم على أنهم مرتكبون لإثم التحريض على تلك المقاطعة; وكأنها تريد أن تقول إنها لا تقبل لنفسها, ولا لغيرها, إجبار المواطنين على التصويت, ولن تقبل, بالتالي, إجبارهم على عدم التصويت, أو المقاطعة, فكلا الأمرين (الإجبار على التصويت والتحريض على المقاطعة) يتساويان في خرقهما وانتهاكهما القانون.
ونحمد الله أن ليس لدينا في حياتنا السياسية (والانتخابية) مرجعية دينية بوزن ونفوذ مرجعية السيستاني, وإلاَّ صدرت فتوى بتحريم المقاطعة وعدم التصويت, وتبشير مرتكب هذا الإثم بعذاب أليم في الآخرة!
إننا نفهم الحقوق القانونية فهما ضيقا, أحادي الجانب, مع أن ممارسة هذه الحقوق, أو تجربتها الواقعية, تعلِّمنا, أي يمكن ويجب أن تعلِّمنا, أمرا في منتهى الأهمية (العملية, وليس النظرية فحسب) هو أن الحق القانوني لا معنى له إلا إذا قُبِل ومورس بصفة كونه وحدة لا انفصام فيها بين الإيجابي والسلبي منه, فالحق في الاقتراع لا معنى له إذا ما انتُزع منه نقيضه, وهو الحق في عدم الاقتراع; والحق في حض المواطنين على المشاركة في الانتخابات لا معنى له هو أيضا إذا لم يقترن, أو يكتمل, بالحق السلبي, أي بالحق في حضهم على المقاطعة; ولو كان الحق القانوني لا يشمل الشي ونقيضه في الوقت نفسه لقلنا لكل مواطن إن لك الحق في أن تعبِّر عن رأيك; لكن ليس لك الحق في ألا تعبِّر عنه, وكأن المواطن (أو الإنسان) ملزم (قانونا) ألا يبقي على رأيه في أمر ما حبيس رأسه; ولقلنا للراغب في الزواج من الرجال إن لك الحق في الزواج; لكن ليس لك الحق في الطلاق!
الحكومة تقول للمواطن (الناخب) إن لك الحق (القانوني) في أن تدلي بصوتك; ولك أيضا الحق في ألا تصوت; لكن ليس لك, ولا لأي جماعة, الحق في أن تحرض الناس على مقاطعة الانتخابات, فإن التحريض لإثم لو تعلمون عظيم.
والتحريض يذكرنا بعبارات لا تقل عنه شرا في معانيها, ك¯ "القوى المندسة", و"مثيرو الفتن".
والمحرض على ارتكاب فعل (شرير) ما يصوَّر دائما على أنه التفسير النهائي لكل حادث لا ترضى عنه الحكومات, فلو أضرب عمال لسارعت الحكومة إلى تفسير إضرابهم على أنه ثمرة تحريض محرض شرير, لا يريد لمجتمعنا الأمن والاستقرار والوئام; وكأن سوء أحوالهم, ومعاناتهم, لا يصلح تفسيرا وتعليلا لإضرابهم; وكأن المحرض, ولو كان لديه من طاقة الشر ما يجعله بوزن وأهمية إبليس نفسه, يستطيع, مثلا, أن يحرض أرباب العمل على نبذ الرأسمالية, والأخذ بالاشتراكية!
وعندنا, لو كان القانون الانتخابي, الذي بموجبه تجرى الانتخابات النيابية المقبلة, يحظى بما يكفي من الشرعية الديمقراطية, أي لو اقر عبر استفتاء شعبي مثلا, لوقع كلام المحرضين على المقاطعة على أسماع شعبية لا تشبه أبدا أسماعهم, ولعجزوا عن أن يجدوا أذنا واحدة تصغي إليهم.
ان الخوف الحكومي من التحريض والمحرضين إنما يعكس ما يعانيه قانون الانتخابات الذي استنته الحكومة للشعب من قصور ديمقراطي يمكن أن يتسبب (هو لا المحرض) بإظهار الانتخابات المقبلة, مع نتائجها, على أنها دليل جديد على أن كل حياة ديمقراطية تشتمل حتما على انتخابات; لكن ليس كل انتخابات تعني, أو يجب أن تعني, وجود ازدهار الحياة الديمقراطية; ونحن كثيرا ما أسأنا فهم نقيض الحياة الديمقراطية, فتصورناه على أنه حياة سياسية تخلو خلوا تاما من الديمقراطية, ولا تعرف شيئا من الانتخابات; مع أن نُظم الرئاسة الأبدية (العربية) تقنعنا, أي يجب أن تقنعنا, بأنها تعشق الانتخابات!
قالوا للسلبيين والمقاطعين, غير مرة, وكأنهم الفضيلة التي تشكو صم الآذان عن سماع صوتها, إياكم أن ترتكبوا خطيئة المقاطعة, فلتذهبوا إلى صناديق الاقتراع, ولتدلوا بأصواتكم (التي هي أمانة) حتى تنالوا مجلسا نيابيا ترجح فيه كفة الجيدين من النواب على كفة السيئين, فإن ابيتم واستكبرتم فلا تلوموا غير أنفسكم إذا ما حفل المجلس النيابي المقبل بغير الأكفاء من النواب; لكن قولهم سرعان ما ناقضه عملهم, فما أن قرأنا أسماء المرشحين في كل دائرة وهمية حتى تبين لنا أن الانتخابات المقبلة, ولجهة ديمقراطيتها, أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع, وكأن شعارها الحكومي الخفي وغير المعلن هو "أيها الناخبون انتخبوا من اخترناه لكم"!
وعما قريب ستتحدث الانتخابات وديمقراطيتها عن نفسها; لكن بلغة الأرقام والنسب, التي هي أصدق إنباء من الكتب, فلتأتوا بالورقة والقلم, ولتحسبوا عدد الناخبين الذين بفضل إيجابيتهم وأصواتهم فاز 120 مرشحا; فكم عدد هؤلاء الناخبين (الناجحين)? وما نسبتهم, انتخابيا وشعبيا?0
العرب اليوم