التحرر من إلزامية الدين

التحرر من إلزامية الدين
الرابط المختصر

يعدّ اعتناق الدين مسألة فرديةً تخص الإنسان في علاقته بربّه. ويكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صادق عليه الأردن ودول عربية عديدة، في مادته الثامنة عشر "حق كل شخص في حرية التفكير والضمير والدين"، ويشمل هذا الحق حرية تغيير الديانة أو العقيدة، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.

واقترنت حرية الأديان في الفقرة نفسها بحرية التفكير والضمير، ما يوحي بخصوصية المسألة باعتبارها بحثاً داخلياً يختلف من شخص لآخر، إلاّ أن دولنا العربية ارتأت أن تشرّع هذا الحق الفردي ووضعه ضمن قوانين الأحوال الشخصية بحيث تُلزم كل مواطن أن يكون له/ لها ديانة معينة ضمن مجموعة محددة من الديانات والطوائف المصرّح بها.

ويجري توثيق ديانة الفرد في سجلات المواطن الرسمية لتُورّث من الوالدين إلى أبنائهما تلقائياً؛ أي أن إلزامية الديانة تُحدد بالوراثة وليس بالضمير، خلافاً لانتماءاتنا الفكرية والحزبية والأيديولوجية؛ إذ ينتمي الفرد إلى فكرٍ أو حزبٍ أو أيديولوجيا ثم يغيرها، ولا يدّون ذلك في أي مكان سوى سجل الحزب في حال الانتساب إليه.

ينبغي الإشارة إلى أنه رغم إلزامية الدين، فإن المواطن الفرد يقوم بشكل طبيعي بقبول أو رفض الديانة المفروضة عليه مهما كانت، فالإيمان أمرٌ ضميريٌ لا علاقة له بما هو مدوّن في السجلات الرسمية. وهناك من يغير إيمانه فيعتنق –داخلياً- ديانة أخرى غير التي وُلد عليها، وهناك عدد أكبر من المواطنين الذين يعتبرون أنفسهم "لا دينين" رغم إجبارهم رسمياً، وأحياناً اجتماعياً، بديانة محددة.

إلزامية الدين لا تقتصر، بالطبع، على الأفراد، إنما هناك مؤسسات وجماعات وزعامات مرتبطة ارتباطاً مباشراً بتلك الإلزامية، وتستفيد منه بشكل كبير ودائم.

سمعنا الأسبوع الماضي عن خلافٍ حول نقْل راهب أسس ديراً في دبين- في محافظة جرش- إلى مقر آخر، الأمر الذي يعارضه أبناء الرعية المسيحيون العرب في تلك المنطقة، ويعدّ حلقةً من حلقات الاستعمار الديني الذي يجثو على صدورنا منذ قرونٍ، ويعكس صراعاً بين أبناء الوطن من المسيحيين العرب الأرثوذكس وبين البطركية التي يسيطر عليها بطريرك ومطارنة يونانيين غير عرب يستمرون في مواقعهم لسبب بسيطٍ وهو إلزامية الدين، وارتباط أبناء وبنات الرعية القانوني والاجتماعي بالكنيسة الأرثوذكسية.

منحت إلزامية الدين مزايا عديدة لرؤساء الديانات والطوائف المعترف بها رسمياً؛ مالية وعقارية، يجري استخدامها للاستمرار في مواقعهم، كما خلقت الإلزامية علاقات نفعية بين الحاكم والمسؤول الديني مما يترك أثراً بالغاً على أبناء الرعية، الذي أصبح دورهم في المؤسسة الدينية مهمشاً وشبه معدومٍ.

تصوروا لو لم يكن الدين إلزامياً في شرقنا العربي! تخيلوا إمكانية اعتناق الديانة التي تختارها وتغييرها من دون تدوين ذلك في سجلك الرسمي وفي البطاقة الشخصية ودفتر العائلة وملفات الأحوال المدنية!

أمران متناقضان سينتجهما إلغاء الإلزامية؛ تقوية الانتماء الديني للمقتنعين بعقائدهم، وتقليص عدد المرتبطين بديانةٍ أو طائفة لأسباب قانونية فقط، والأهم من ذلك كلّه يتعلق بمستقبل المؤسسات الدينية، التي تستثمر إلزامية الدين لمآربها الخاصة. هذه المؤسسات ستتضرر، بلا شكٍ، فلن يبقى أحدٌ ملتزمٌ بها ومعها، وستزول سلطتها الدينية، ويُقلل من قدرتها استخدام نفوذها مع الحكام، لأنها ستضعف بدرجة كبيرة، وتضطر أن تتجاوب مع رغبات رعيتها، وإلا سيهجرون دينهم وينتمون إلى طائفة أو ديانة أخرى أو سيعزفون عن الاستمرار في التزامهم للمؤسسة الدينية.

إلزامية الديانة مقيتة وغير عملية، ولا تعكس الانتماء الحقيقي للإنسان، فالمؤمن يجب أن لا يهمه ذكْر تلك الديانة في هويته أو الحصول على قرارٍ ما من محاكمها الكنسية أو الشرعية. المؤمن الحقيقي يهتم بعلاقته بربه واتبّاع وصاياه.

الإيمان خيارٌ جماليٌ وفكريٌ ما دام المؤمن يسير بمحض إرادته، وليس ملزماً أن ينتمي إلى تلك الديانة بصورة إجبارية لأسباب وراثية وقانونية.

 

·        داود كتّاب: مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي. أسس العديد من المحطات التلفزيونية والإذاعية في فلسطين والأردن والعالم العربي.

أضف تعليقك