البداية كانت في تجميد الأجندة الوطنية
من السهل دائما في أوقات الأزمات توجيه اللوم إلى الحاضر ، وإلى الجهة التي تتولى المسؤولية الحالية ، ولكن التشخيص الدقيق ينبغي أن يعود إلى الماضي القريب ومعرفة الدوافع والأسباب التي أدت إلى الوضع الراهن ، وفي هذا السياق استطيع أن اقول بأن السبب الجذري للأزمة الاقتصادية - الإدارية التي تمر على الأردن يعود إلى تجميد المشروع الإصلاحي الأكثر شمولية في تاريخ الأردن وهو الأجندة الوطنية.
حاولت الأجندة الوطنية أن تقدم خطة عمل إستراتيجية للأردن تصل به إلى مستقبل مستقر سياسيا واقتصاديا في العام 2015 بناء على تحليل عميق للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية وتلك المحيطة بالبلاد ، وقدمت اقتراحات وتوصيات محددة ومجموعة من المشاريع لتحقيق هذه التوصيات. ما حدث للأسف كان عملية "انتزاع" لبعض المشاريع من سياقها المنهجي الإستراتيجي في الأجندة الوطنية وتضمينها في الموازنة بعد تخصيص أموال لها ولكن مع فقدان "الروح الإصلاحية" والرؤية التي حكمت عملية إعداد الأجندة الوطنية تعرضت الأجندة للعديد من مصادر التشكيك ورأى البعض فيها توجها انفتاحيا مبالغا به والبعض الاخر كان يريد حرق المراحل للوصول إلى أرقام نمو عالية ومنفصلة عن السياق الاجتماعي السياسي في الأردن. وقد قام كلا الطرفين باستخدام جزئيات ذات طبيعة إشكالية من توصيات الأجندة لشن حملة لا هوادة فيها ، وكان من تلك التوصيات ما يتعلق بإلغاء إلزامية العضوية في النقابات مما أثار كافة النقابات ضد الاجندة الوطنية كمشروع وخطة وساهم في خدمة الطرفين اللذين عملا على إسقاطها.
ولكن أكثر الحجج إثارة للخجل وأقلها منطقية كان الانتقاد المتعلق بعدد صفحات الأجندة ، حيث أن الكثير من السياسيين والإعلاميين قالوا بأنهم لم يقرأوا الأجندة لأن فيها أكثر من 10 آلاف صفحة تفصيلية ولا يمكن إيجاد الوقت لقراءة كل هذا. في الواقع هناك مشكلة حقيقية تتعلق بالقراءة في الأردن وكل العالم العربي ، فالقراءة ليست الهواية المفضلة للنخبة السياسية والإعلامية إذا ما قورنت بتبادل "سواليف الحصيدة" في المجالس السياسية والثقافية ، أو الثرثرة عبر الهواتف الخلوية ، أو الهواية الأثيرة وهي اتخاذ مواقف مسبقة لا تتغير بدون أي جهد في القراءة. وإذا كانت المجلدات التفصيلية للأجندة تتضمن آلاف الصفحات والتي لن يقرأها إلا المختصون في الشؤون القطاعية ، فإن المجلد الرئيسي للأجندة يمثل 250 صفحة مرتبة ومنظمة ومصاغة بشكل جيد ، ولا أعتقد أن أي شخص يتنطح للقيادة العامة والقرار السياسي والتشريعي ويعجز عن قراءة 250 صفحة يمكن أن يحافظ على مصداقيته.
على الصعيد الاقتصادي اقترحت الاجندة الوطنية ثلاث مراحل للإصلاح الشامل حتى العام ,2017 المرحلة الأولى 2007 - 2012 تركز على خلق فرص العمل من خلال تنمية الصناعات والخدمات التصديرية كثيفة العمالة بهدف القضاء على البطالة. وفي المرحلة الثانية 2012 - 2017 يتم تحديث القاعدة الصناعية وتقويتها من خلال تعزيز الصناعات كثيفة رأس المال ونقل الاقتصاد نحو مهن واستثمارات ذات قيمة مضافة عالية وذلك للوصول إلى المرحلة الثالثة 2018( وما بعد) والتي تركز على المنافسة العالمية في اقتصاد المعرفة.
وفي ما يتعلق بالسياسات المالية بالذات تقترح الاجندة الوطنية ومنذ العام 2005 (أي قبل موجة التوسع في الإنفاق العام وتحويل عوائد التخاصية لنادي باريس) تحسين إدارة الدين العام ، وإلغاء الدعم المقدم لمشتقات النفط والسلع الأخرى مع توجيه المعونة إلى الفقراء في الوقت نفسه ، وكذلك خفض الدعم المقدم للمؤسسات العامة ، إضافة إلى إعادة هيكلة نظام التقاعد العام من أجل تخفيف عبء نفقات رواتب التقاعد عن الموازنة العامة. كما طالبت بإعادة هيكلة نظام الخدمة المدنية من أجل تحسين فعالية فاتورة أجور ورواتب القطاع العام ، وتسريع تنفيذ برنامج التخاصية لاستخدام عوائده في تمويل بعض هذه الإصلاحات. وحسب تقديرات الأجندة الوطنية كان يتوقع أن يؤدي تنفيذ مبادرات الإصلاح المالي الحكومي الواردة في الاجندة إلى خفض نسبة عجز الموازنة العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي لتتراوح بين 3% و 4% بحلول العام 2009 ، وقد يتحول إلى فائض ابتداء من العام ,2016 وفي المقابل ساهمت عمليات التوسع في الإنفاق العام تحت قاعدة "إنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" في الوصول إلى نسبة عجز موازنة تصل إلى %25 في العام ,2009
كل هذا لأننا لا نريد أن نقرأ ولا نريد أن نخطط للمستقبل ، بالرغم من الخطة الواضحة والجاهزة منذ العام 2005،.
الدستور