البحث عن "أوغلو أردني"!
في ثلاثة فصول (نشرتها صحيفة الحياة اللندنية) من كتابه المهم "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية)، يقدّم وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، خريطة تاريخية وجيواستراتيجية دقيقة لعلاقة تركيا بالمنطقة العربية وبإسرائيل، ويرصد التحوّلات البنيوية التي مرّت بها هذه العلاقة منذ مرحلة السلاجقة مروراً بالعثمانيين وصولاً إلى الحربين العالميتين وما تلاهما من تباعد كبير بين تركيا وجيرانها العرب، وتقارب مقابل بينها وبين إسرائيل.
يرسّم أوغلو في كتابه (الذي سيصدر قريباً عن مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم) خطوط الفصل والوصل تاريخياً واستراتيجياً بين تركيا والعرب، بعد أن يفكك هذه المعادلات ويعيد تركيبها بصورة عقلانية- واقعية، وبعد أن يحلل ما يسميه "سيكولوجيا الانسلاخ" التي حكمت العلاقة بين الطرفين خلال العقود الأخيرة، يضع الإطار الذي يفترض أن يحكمها خلال المرحلة المقبلة.
في المقابل، يشرّح أوغلو العلاقة بين الأتراك وإسرائيل، ويحلل العوامل التي أدّت إلى انتقالها من السياق التكتيكي إلى الاستراتيجي، ثم يدفع باتجاه الحدّ منها، باتجاه بناء معادلات أكثر توازناً وعقلانية مع دول المنطقة، ما يجعل من التقارب التركي- العربي مفتاحاً لدور تركي إقليمي جديد.
إحدى الخلاصات الأساسية من الكتاب أنّه يردّ على الدعاوى التي عزت التحول التركي إلى لحظات مؤقتة مرتبطة بالحرد من الأوروبيين بعد إفشال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ووضعت الصعود التركي الجديد في إطار مساومات تكتيكية محدودة.
تلك الدعاوى يردّ عليها كتاب أوغلو بوضوح، فالصعود التركي الجديد محكوم بفلسفة جديدة لإدارة علاقة تركيا الإقليمية وبمراجعة عقلانية لملف هذه السياسات واستدارة جديدة تعيد تعريف المصالح التركية ومصادر التهديد.
بالطبع، قيمة الكتاب أن مؤلفه هو أوغلو، وفضلاً عن موقعه وزيراً للخارجية، فهو مفكر إسلامي تركي بارز، له تأثيره الكبير على قيادة حزب العدالة والتنمية وفلسفته الفكرية والسياسية، وهو أيضاً رجل دولة يتقن الجمع بين الفلسفة والأفكار وطبيعة العمل السياسي وشروطه بصورة متميزة.
يصاب المرء بالغيرة الشديدة عند قراءة كتاب أوغلو، إذ نفتقد هنا (أردنياً) لأي نوع من أنواع التنظير والتفكير الاستراتيجي المكتوب الذي يحدد ويراجع مسار ليس فقط سياساتنا الخارجية، بل الداخلية.
سياساتنا الخارجية والداخلية محكومة، بلا شك، بمصالح معينة ومحددة، ولا تأتي من فراغ، لكنها في الوقت نفسه تتحرك في فراغ فلسفي وتنظيري، وفي غياب توافق سياسي عام على الإطار الذي يحكمها ويحدد هويتها ووجهتها، بل لا تكاد تقرأ كتاباً معتبراً في هذا السياق لأحد السياسيين الخبراء الأردنيين، على غرار أوغلو.
لا يمكن مقارنة التجربة التركية العريقة الممتدة والمتشابكة والمعقّدة بتجربتنا المحلية المحدودة، لكن ذلك أدعى أن نكون أكثر قدرة على وضع الأطر الفلسفية والنظرية التي على الأقل تشكل لواقط لتحديد المسار والاتجاه، وتمكّننا من مراجعتها ونقدها ومناقشتها، كما فعل أوغلو في كتابه.
إلى الآن ما نزال نفتقد إلى "نصوص" استراتيجية تحدد الفلسفة العامة التي تحكم السياسات والقرارات، وكذلك التحديات والأزمات والمبادئ التي تحكم التعامل معها، وما نزال نسيّر شؤوننا بعقلية الفزعة والقطعة، لذلك ندور حول أنفسنا مع حركة بطيئة لكن إلى وراء لا إلى الأمام!
الغد