البحث العلمي.. مجرّد زينة غير ضارة

البحث العلمي.. مجرّد زينة غير ضارة
الرابط المختصر

يأخذ الحديث عن البحث العلمي في الجامعات الأردنية حيزاً كبيراً من أوقات الأساتذة واهتماماتهم، ويتحدثون عن منجزاتهم البحثية، لكن هذا الاهتمام ليس من أجل بيان نتائج البحث وإمكانية الاستفادة منه، ومدى فاعليته في إيجاد حلول مناسبة للمشكلات التي يعاني منها المجتمع أو الدولة أو المؤسسات، فذلك أمر لا علاقة للبحث العلمي فيه، وينصب الحديث عن قيمة هذه الأبحاث من حيث عدد النقاط التي يمكن أن يحصل عليها عضو هيئة التدريس للحصول على الترقية، ليصبح اسمه أستاذ دكتور، ويضع على مكتبه ألفاً قبل الدال. طبعاً هذا ليس تقليلاً من قيمة هؤلاء الأشخاص وأقدارهم، لكن ما يعنيني هنا أن هذه الأبحاث التي نقدمها في الجامعات لا تقدّم ولا تؤخر في مجالاتها العملية إلا القليل جداً منها.

يستند البحث العلمي إلى التفكير في المشكلات التي تواجه الإنسان، وأهدافه كما تحددها بعض الدراسات، إدراك الظّواهر وتفسيرها الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و الطبيعيّة وتفسيرها، من أجل إيجاد حلول مناسبة لها، وإمكانية الاستفادة منها على الوجه الأكمل، وكذلك التّخمين الذّكي والدقيق  لما سيكون عليه الحال مستقبلاً، وهو مبني على التّفسير والمعطيات، كما يهدف لما يسمى التّحكم والضّبط، أي التّحكم بالظّواهر الطبيعية والمجتمعية والسّيطرة من أجل إيجاد الأدوات التي تساعد على تذليلها لتصبح في خدمة الإنسان، والوصول إلى نتائج علميّة دقيقة في فهم هذه الظّواهر، بعيدا عن التّخمين والتّكهن عند دراستها، الأمر الذي يقود إلى نتائجَ أكثر دقّة وشفافية، ومن ثم إيجاد معارف جديدة والعمل على تطويرها.

ومن خلال تلك الأهداف يتبين لنا أن قيمة البحث العلمي تكمن في قدرته على تحسين الواقع والعيش والأدوات التي تسهل حياة الناس وتعطيهم قدرة أكبر على التحكم بالظواهر التي حولهم، مما يعني ربط البحث العلمي بالواقع والتأثير فيه، وهذا لا نجده في أبحاثنا التي يكتبها الأساتذة في الجامعات، إذ من المتوقع منهم أن ينتجوا أبحاثا مفيدة، لكن ذلك غير متحقق لأسباب كثيرة، فالبحث العلمي عندنا غير مرتبط بالنشاط المجتمعي في نواحيه المختلفة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لإيجاد الحلول للمشاكل، وإيجاد الأدوات لتطوير هذه النواحي، ويحدث ذلك إذا آمنت مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع أن حلول المشكلات يحتاج إلى بحث يقوم على أسس علمية وليس على اجتهادات شخصية.

كما يتطلب ذلك ربط البحث العلمي بالصناعة والزراعة والتجارة والفكر ومختلف نواحي الحياة، أي أن يخرج من داخل أسوار الجامعات ليشارك في حياة الناس، لكن للأسف فإن الأكاديمي لا يستطيع أن يتفرغ للبحث العلمي، لأنه مشغول بتحسين أوضاعه المالية، كما أن الجامعات تربط ترقيات أعضائها الأكاديميين بمقدار ما ينجزونه من بحث علمي، وتشترط عليهم أن يقدموا أبحاثا خلال سنوات معينه، ولذا فلا غرابة في أن أغلب الأكاديميين يكتبون الأبحاث التي لا تستغرق إلا القليل من الوقت ولا تكلف الكثير من المال. والنتيجة أوراق مطبوعة تملأ صفحات المجلات، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا يمكن الاستفادة منها أو تطبيقها على أرض الواقع.

ربما تجدر الالتفاتة إلى بعض الدراسات التي تشير إلى أن الاستثمار في البحث العلمي والتطوير في العالم العربي هو أقل من سُبع المعدل العالمي، إذ لا يتجاوز نصيب البحث العلمي والتقني في البلاد العربية 0.002 % من الناتج المحلي مقابل ما يزيد على 2.5 % بالنسبة لمعظم الدول الصناعية، وفي العالم اليوم كما تشير الأرقام يوجد أكثر من 4 ملايين وخمسة عشر ألف باحث، منهم 19 ألف باحث فقط في العالم العربي، بينما يضم المركز القومي للبحث العلمي في فرنسا بمفرده حوالي 31 ألف باحث، ومجموع الأبحاث التي تجريها جامعة أوروبية أو أمريكية أو يابانية واحدة يساوي مجموع كل الأبحاث العلمية التي يجريها الباحثون العرب. كما أن العالم العربي الذي يشكل 5 % من سكان العالم ينتج 1.1 % من الإنتاج العالمي للكتب، ويترجم 300 مليون عربي من الكتب سنوياً أقل سبع مرات من 20 مليون يوناني، على سبيل المثال، حيث إن اليونان من أقل الدول المتقدمة في مجال الترجمة.

إن ثلاثين جامعة أردنية فيها ما يقارب عشرة آلاف عضو هيئة تدريس، من المتوقع أن يكتب هؤلاء آلاف البحوث التي تمنحهم الترقيات، إضافة لآلاف الرسائل الجامعية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، كلها دراسات وأبحاث محفوظة على رفوف المكتبات، يعلوها الغبار، ولا أحد يعود إليها أو يستفيد منها. إذ كيف نفهم مثلاً أن مشكلة التعليم عندنا هي مشكلة دائمة ومستمرة منذ عقود من الزمن، وليس لدينا حل، أو مشكلة التوجيهي التي نضع لها كل سنة قانون ولا نجد لها حلاً، مع أنني متأكد أن رفوف جامعاتنا ومجلاتها تحتوي على أكثر من ألف دراسة أو رسالة عن التربية والتعليم في الأردن!

يوسف ربابعة: كاتب وباحث وأستاذ جامعي. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.