الانتخابات العربية، وإعدام سقراط المتكرر
بؤس الفلسفة وإقصاؤها، بدآ منذ بداياتها، وربما كان سقراط، أحد أبرز الأمثلة على هذا البؤس والإقصاء المبكرين، وذلك حين قرر فجأة وكفرد، البحث عن الحقيقة بعيداً عن آلهة أثينا وقوانينها. وقد مثل هذا خير تمثيل، حوار أحد أصدقائه معه قبيل محاكمته، والذي نصحه محذراً: "أنت تريد الحقيقة والعدالة، أما أعداؤك، فيريدون الدولة".
هل الدولة مضادة للحقيقة حقاً؟ كما ظهر من نصيحة هذا الصديق، أم أن السلطة تصنع حقيقتها؟ ولا تكون سلطة إلا إذا عملت على صنع حقيقة وتعميمها، مستخدمة أدوات كالإجبار أو القمع أو القوانين، أو حتى الديموقراطية بحد ذاتها، لتمرير هذه الحقائق. وبذكر الديموقراطية، فمن الجدير إذن، تناول الانتخابات كواحدة من الأدوات.
أداة، تحقّق وجهاً من وجوه الديموقراطية، وفي الوقت ذاته، تضمن للسلطة انتصارها في غزوها المتكرر لشعبها، نعم، السلطة في حالة غزو داخلي دائم، تجاه شعبها، فهي وفي كل الأحوال، تسعى للحفاظ على امتيازاتها ومصالحها، مهما كانت نتيجة الانتخابات، وسواء تغيرت الوجوه في البرلمانات ومجالس النواب أم لم تتغير، هذا الثبات الذي يخدم السلطة، نراه بوضوح في الحالة العربية، التي تعيد إعدام سقراط بالطبع، في كل انتخابات تشريعية تجري.
الشعب، المزيج المكون من تعدّديات قد تختلف أحياناً، في طوائفها وأصولها العرقية وتبعياتها القبلية (كما في الحالة العربية)، أو قد لا تختلف، وربما يتفاوت أفراد الشعب بالطبع في مستوياتهم الثقافية وتطلعاتهم الفردية، كل هذا الخليط، مهما اتفق أو اختلف، يتساوى، أو من المفترض أن يتساوى أمام صندوق الاقتراع، ويختار ممثليه بعدل، وبتساوٍ للفرص.
المثير للسخرية بطبيعة الحال، هو الطقوسية التي ترافق الانتخابات، وهذه ظاهرة عالمية تقريباً كما رأينا في الانتخابات الأمريكية، وكما نراها بوضوح كمواطنين في انتخاباتنا المحلية، حيث تكون الحملة الانتخابية للمرشحين، عبارة عن احتفالية شخصانية، تستمد قوامها من العائلة وتاريخ الفرد كعامل في أجهزة الدولة مثلاً، أيا كانت، كمؤسسات رسمية مدنية أو غير مدنية، ومن سيرة المرشح المالية، وبروزه كرجل أعمال.
حيث يستطيع رجل الأعمال هذا استقطاب فئة من المواطنين، بمشاريعه الخاصة وتقدماته المالية الداعمة لهم ربما، وبإظهاره لأحقيته وأهميته كمرشح من خلال هذه الأموال. فيما ينشغل الناخبون بالتندر على كومة الشعارات التي تملؤ الشوارع، والتي تستهلك نفسها بنفسها بصورة تهريجية، حين يتم جمعها وتمزيقها وإحراقها، بمجرد انتهاء السباق الانتخابي.
بكل الأحوال، فإن مرشحنا المحلي هذا، سوف لن يترشح، وسوف لن يلقى الدعم، إلا إن كان يحمل صفة غير ديموقراطية كما ذكرت، تؤهله ليمثل المواطنين وليمثل الديموقراطية! فما معنى أن يمثل الشعب منتفع مالي، أو رجل دين طائفي، أو مسؤول دولة سابق وابن قبيلة ما؟ وهكذا بالفعل، يضلل الشعب نفسه فيما بعد، ويشكو من أداء مجلس برلمانه!
ربما لا يعنينا النظر في قوانين الانتخابات وآلياتها، قبل النظر إلى التركيبة التي تحدد علاقتها كنظام بعلاقة المعنيين بها، وهم الشعب، إذ إنها بالأصل، تستخدم الشعب وفقاً لهوى السلطة، ولعل صرخة ميرابو (أحد خطباء الثورة الفرنسية)، أمام المجلس الوطني الفرنسي عام 1789، فيما المجلس يطالب بإجراء انتخابات شعبية، بأن يعرفوا الشعب ويحددوه.
ما هو الشعب؟ صرخة ميرابو التي عنت في حينها أن النبلاء ورجال المال، والمسؤولون ورجال الدين، لا يمكن لهم ربما أن ينتخبوا، أو أن يكونوا المرشحين. وليس هذا لقمعهم بصفتهم جزءاً من الشعب، لكن استبعادهم، كان مطلوباً لأنهم جزء من السلطة، أكثر منهم جزءاً من الشعب، ولذا، ليس من المنطقي ربما، أن تنتخب السلطة، نفسها، دون الشعب.
من المدهش بكل حال، والغريب، تقبل الانتخابات في بلادنا كعادة من العادات، واعتبارها عرساً أو طقساً، ذلك أن العادات لا معنى لها، إلا إن حملت قيمة أو وظيفة، لا لتكون تقليداً يرسخ ما كان، ويلغي ما يمكن أن يكون، بل لتؤدي وظيفة، تقود للتغير والتطور الدائمين، وبكل حال، الأسس الثقافية والبنى الفكرية الفردية والجماعية، لا يتم توظيفها في هذه الأعراس الوطنية.
إنما يستنسخ الشعب مجالسه النيابية، وفقاً لمعطيات متكررة لا تتغير، ربما ينسجها من رحمه، الذي تلقحه السلطة دوماً وأبداً، ليتم إنتاج صيغة متكررة، لا تسمح بتمثيل شعبي مثقف وأكثر واقعية. أعود إلى سقراط، الذي سأل أيضاً: كيف يتم اختيار المواطنين الذين سوف يصيرون مسؤولين، أو قادة؟ بالنسبة لسقراط، كلفه البحث عن حقيقة غير حقيقة السلطة موته، وربما يؤشر هذا إلى أن المعرفة كذلك، عدوة للسلطة إن لم تنتجها هي بنفسها، وفي المحصلة، فإن هذا يعني، أن ديموقراطياتنا وانتخاباتنا العربية، عدوة للسلطات، إن لم تنتجها السلطات بنفسها، فيما نكتفي نحن بالمشاركة، والسخرية من أنفسنا، ربما نشارك فقط، لنحافظ على حِسنا الساخر!
عاصف الخالدي: روائي ومترجم أردني.