الاستبداد النائم

الاستبداد النائم

تتفق أغلب الآراء في مجتمعاتنا على "اقتصار" دائرة الاستبداد في ولاة الأمر السياسيين، والتاريخ العربي الاسلامي القديم والمعاصر يعزز هذه الفكرة، لكن المسافة الفاصلة في هذا الشأن بين النخب وبين الجمهور وبين ولاة الامر اقصر كثيرا مما نتوهم، فبعض أفراد النخب محشور في تخصصه لا يعرف خارج حدوده شيئا، وبعض الجمهور لم يقرأ في العلوم خارج نطاق " إزالة الامية" ومع هذا تراه جريئا في إصدار الفتاوي ومنع الآخرين من أن " يفتوا" على غرار ما يفعل ، لكن كلا منا " داعية للحرية" الا إذا وخزت استبداده النائم .

 

ويتجلى استبدادنا النائم والذي يستيقظ بالوخز في نماذج منها :

 

1- الدين: هل يوافق الفرد العربي المسلم ان تتاح الفرصة للملحد أو اللاديني ان يعرض فكرته بنفس الوسائل وبنفس الحق الذي يتاح للمتدين؟ لك كل الحق في أن ترفض رأي ذلك الملحد او اللاديني، ولكنك لا تعطيه فرصة عرض رأيه لا شفويا ولا كتابة ولا فنيا ولا مسرحيا حتى لو كان موسوعة علمية...في داخلنا أيضا سخرية من أديان الآخرين، ولو أن مؤمنا بدين آخر سخر من ديننا، فإننا لا نتعامل معه بنفس سخريتنا من أديان الآخرين او حتى من طقوسهم الدينية، وثمة وجه آخر في هذه المسألة في بعض الصحف وبعض الكتابات العربية الاسلامية، فعندما يعلن عالم غربي انه قرر " اعتناق الاسلام" فنرى تهليلا وتصفيقا كما يجري في مدرجات كرة القدم إذا سجلنا هدفا في مرمى الخصم...ولكن إذا اعلن مؤتمر علمي يضم مئات العلماء رايا لا يجاري الرأي الاسلامي قابلناه بالسخرية وعدم الاكتراث بل ومنعنا تداول الخبر.

 

ولنذهب لمظهر آخر من مفهوم الحرية عندنا(كأفراد ومجتمعات) ...فمثلا هناك 2600 مسجد في ألمانيا و 2100 مسجد في فرنسا و1500 مسجد في بريطانيا، وهناك 10 الاف و 989 مسجدا في اوربا كلها..وعدد المسلمين في اوروبا هو 5% من السكان وهو ما يعني ان لكل 1528 فرد مسلم هناك مسجد...فهل لدينا كمجتمعات استعداد لقبول بناء كنائس للمسيحيين العرب وغير العرب في بلادنا ؟ويكفي النظر في عدد الكنائس في الخليج العربي رغم العمالة المسيحية الآسيوية في الخليج...؟ لقد تزايدت قوة اليمين الفاشي في اوروبا كرد فعل على تزايد مظاهر " الاسلمة" في المجتمعات الاوروبية، لكن مساحة الحرية تبقى اوسع مما لدينا كمجتمعات لا كولاة أمر ...ولنتخيل لو ان فضائية عربية تخصصت في الفكر العلماني..هل توافقون على حقها في البث أم لا؟ او فرقة فنية تريد عرض مسرحية تدافع عن " ابن الرواندي" فهل نجيز لها – كمجتمع- الحق في ذلك؟ هنا يستيقظ الاستبداد النائم فينا.

 

2- السياسة: لك كل الحق ان تتبنى أي عقيدة سياسية، وأن تنتقد أي عقيدة أو ايديولوجية أخرى، ولكن لو كنت وزيرا للداخلية وتقدم حزب معارض لمواقفك معارضة تماما ، فهل تؤيد حقه في الاعتراف بشرعيته؟ لا بد أن نقبل بحق أي رأي سياسي - مهما كان- في عرض مضمونه على الجماهير، حتى لو كان يتبنى التطبيع مع اسرائيل والانفتاح عليها او ان يتخذ موقفا معاديا تماما لها او كان رأيا شيوعيا او ليبراليا مفرطا في ليبراليته او دينيا ...الخ ، وفرق بين القبول بحق التعبير عن الرأي وبين القبول بذلك الرأي..لنترك الاغلبية هي التي تقرر بنزاهة ...لكننا في الحقيقة لا نقبل حق من يخالفنا لان لدينا وهم الحقيقة المطلقة، فماذا لو ان الآخر لا يشاركك " حقيقتك المطلقة "؟ هنا يتم اختبار مدى استبداديتك.

3- في العادات والتقاليد..احترام قيم المجتمع شيء وقبولها شيء آخر، من حق كل فرد ان يمارس حياته بالطريقة التي يراها مناسبة ( طالما انها لا تمس حقوق الآخرين) سواء أكان ذلك في اللباس او الفن او الطعام او الشراب ..الخ، ومن حق الآخرين نقد ذلك دون منع صاحبها من ممارسة ذلك.

 

إن وظيفة الدساتير هي وضع قواعد تنظيم العلاقة بين الأفراد وبينهم وبين السلطة وبين الجماعات..وهذه القواعد هي التي ترسم حدود الفعل والتفكير شريطة ان تكون دساتير انتجتها الإرادة العامة النزيهة ، لكن ما يجري في مجتمعاتنا هو " استبداد" نائم يستيقظ ليسدل ستائره على كل النوافذ ، فكيف سيُطلُ الصباح؟؟؟؟ كل تطور جاء بعد إعادة النظر في ما هو قائم وسائد...وبعد عقد اجتماعي نزيه وليس بعد عقود إذعان...ربما.

أضف تعليقك