تعارف المسلمون قديماً وحديثاً على أن أركان الإيمان خمسة، وذلك من خلال التعريفات التي قام بها المختصون في مجال التوحيد، وما سمي فيما بعد بعلم العقيدة، وهو العلم الذي يبحث في الإيمان ومفاهيمه وأركانه ومحدداته، وهو الذي صنع فيما بعد الاختلاف بين الفرق والطوائف الإسلامية، باعتبار أن العقيدة هي الأساس في التفريق بين المسلم وغيره.
يشدد علماء العقيدة أركان الإيمان بأنها؛ "الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره". ولو تتبعنا الحديث عن الإيمان في القرآن لوجدنا أن هذه الأركان ليست هي دائماً المحدد الرئيس في قضية التوحيد، إذ إن هناك أركانا أخرى قد تكون أكثر أهمية في سياقات النص القرآني، وبحسب جهة الخطاب أيضاً، حيث نجد أن ثلاثة أركان فقط تشير لعمومية الإيمان وإخراجه لدائرة العالمية، وللناس كافة كما هو هدف الإسلام، وهي واضحة ومصرح بها في سورة البقرة في الآية التي تقول: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
لقد حددت الآية السابقة الإيمان العام لجميع الناس ومن الأديان كافةً بأنه يتم بثلاثة أركان، هي؛ الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وهي الأركان التي لها تأثير مباشر في حياة الإنسان، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، فالإيمان بالله هو الذي يجعل الإنسان متوجهاً بذاته وجهوده نحو خالق واحد، مما يشكل له مرجعاً في الحكم على الأشياء، ويبعده عن النظرة العنصرية في الأفضلية والتعالي على الناس، لأن أصل الخلق من مصدر واحد، ولابد من تحقيق العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات فيما يخص علاقة الإنسان بالإنسان، أما اليوم الآخر فهو العنصر الغيبي الذي يمنح الإنسان التوازن النفسي، ذلك أن العدالة المطلقة ستتحقق في ذلك اليوم، وأن مصير الإنسان ليس عبثياً ليفعل ما يريد، بل هناك نتيجة حتمية سيحاسب فيها على ما فعل، وأما العمل الصالح فهو ما يمكن تسميته "الإيمان بالإنسان"، ذلك أن العمل من الإنسان ومتوجه إليه ولغيره.
إن الإيمان بمفهومه الأصيل هو الاعتقاد الذي يؤثر في حياة الإنسان وسلوكه، ولا أعتقد أن الإيمان بالملائكة مثلاً له أي تأثير في حياة الإنسان، ولا في سلوكه، هو فقط تصور مجرد لمخلوقات موجودة في هذا الكون، ويمكن أن ينطبق ذلك على الرسل والقدر أيضاً، فليست هي عناصر مؤثرة في السلوك الإنساني، وهذا لا يعني أنني أنفي الإيمان بها، لكن هي مسألة خاصة لكل إنسان، ولا تُخرج من ينكرها من دائرة الإيمان، حيث يمكن أن تصبح دائرة الإيمان موسعة لتشمل كل الناس من مختلف الأديان والطوائف الذين يلتقون على فعل الخير، ويعملون من أجل إعمار الأرض بما ينفع الناس ويسهل سبل معيشتهم في الحياة.
العناصر الثلاثة التي حددتها الآية المذكورة في سورة البقرة، هي التي تؤثر في سلوك الإنسان وتدفعه نحو فعل الخير ومراعاة مصلحته ومصلحة مجتمعه، فهي تحدد طبيعة العلاقة مع الخالق ثم مع المصير ثم مع الإنسان، ولذا يمكن أن نستنتج من ذلك أن الإيمان على مستوى إنساني يتشكل بأن يكون هناك إيمان بالله (الخالق)، واليوم الآخر (المصير)، والإنسان (العمل الصالح)، وبذلك يتحقق وجوده في الكون وغايته. فالإيمان بهذه العناصر الثلاثة هو الذي يجعل المؤمن فاعلا في الحياة، ومؤثرا في إعمار الأرض.
إن الإيمان بالإنسان عنصر قد أغفلته قواعد التوحيد بوصفه المتلقي للفعل وللأمر الإلهي، وما عليه إلا السمع والطاعة والتطبيق، حتى انسحب ذلك على علاقة السلطة بالمواطن، فكان متلقياً لأمر السلطان، طائعاً لما يُلقى عليه، وليس مشاركاً في الفعل أو قادرا ًعلى الاعتراض عليه، فهو سلبي،وما عليه إلا الإيمان قسراً أو رغبة، وذلك بسبب عدم الانتباه لمسألة الإيمان بالإنسان بوصفه عنصراً مهماً في عملية التوحيد وفاعلاً بوجوده ومصيره، فهو المنتج لكل الأركان التي تسمى أركان الإيمان، ولولا اعتقاده لما كان هناك إله ولا يوم آخر ولا جنة ولا نار، فالذي يعطي أهمية لكل ذلك هو اعتقاده بوجودها. ولأنه غاب عن الفعل غابت كل محفزات الفعل لديه، حتى لو آمن بها بشكل نظري، فبقيت غير فاعلة في حياته.
لذا فإن الإيمان بالإنسان أصل في التوحيد كما الله واليوم الآخر، ومن دون الإيمان بالإنسان بوصفه العنصر الأهم في كل أركان التوحيد، سيبقى خارج دائرة الفعل، ومنعزلا على ذاته، وستبقى أركان الإيمان كلاما يردده الشيوخ على المنابر، وفي بطون الكتب.
- د. يوسف ربابعة: كاتب وباحث ورئيس قسمي اللغة العربية والصحافة في جامعة فيلادلفيا. له مجموعة أبحاث في مجال التعليم والفكر والسياسة، ومنها: تجديد الفكر الديني، الشعر والقرآن.